ربما أضحى الرئيس الفرنسي جاك شيراك، الذي سيغادر منصبه في السادس عشر من شهر مايو المقبل، على وشك خسارة آخر المعارك التي خاضها طوال مدة رئاسته البالغة اثني عشر عاماً. ذلك أنه تعهد بمثول قتلة صديقه رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري أمام محكمة دولية، أنشئت خصيصاً لهذا الغرض من قبل مجلس الأمن الدولي، وصادقت عليها الحكومة اللبنانية. وكان الحريري و22 من المشاركين في موكبه، قد لقوا مصرعهم نتيجة انفجار استهدفهم في أحد شوارع العاصمة بيروت، في الرابع عشر من فبراير 2005. وعند ذهابه إلى بيروت لحضور مراسم التشييع، كان قد ساد الاعتقاد بأنه قطع لأسرة الحريري وعداً خاصاً بمعاقبة الجناة. وبالفعل وفي اليوم نفسه، تقدم شيراك باقتراح إقامة محكمة دولية خصيصاً لمحاكمة الجناة، وواصل حملته الخاصة بهذه المحاكمة إلى تاريخ اليوم. ولكن المشكلة أن الوقت يمضي سريعاً الآن. فما هما سوى أسبوعين فحسب، يغادر بعدهما شيراك كرسيه في قصر الإليزيه، وقد احتدم جدل عنيف ضار بشأن هذه المحكمة نفسها، امتد لبضعة أشهر، ولم تصب الحكومة اللبنانية بالشلل جراءه فحسب، وإنما طال هذا الشلل، الحياة السياسية اللبنانية بأسرها. وفي أثناء ذلك، لم يتمكن مجلس الأمن الدولي المنقسم على نفسه، من العمل في هذا المنحى، وفقاً لما أراد شيراك.
وكان مصرع الحريري، قد أدى إلى نشوب خصومة مريرة بين شيراك ونظام نظيره السوري بشار الأسد، الذي يتهمه شيراك بالتواطؤ في تلك الجريمة. وهناك من يرى أن هوس شيراك الشخصي بتلك الحادثة وغضبه منها، قد أثرا على موضوعية حكمه وموقفه منها. غير أنه رفض فيما يبدو قبول هذا الزعم. ومهما يكن، وطالما بقي النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني مراوحاً مكانه وتعثره، تبقى كذلك لدمشق مصالحها الحيوية الأمنية في بيروت، وهي لا تستطيع التسامح فيها مع أي حكومة معادية لها هناك، أو مع أي نفوذ أجنبي معادٍ لها على بيروت.
وفي الوقت ذاته، شجب حلفاء سوريا من اللبنانيين، تلك المحكمة واصفين إياها بأنها ليست سوى أداة سياسية قصد منها ليُّ ذراع لبنان وإدخاله عنوة إلى مجال النفوذ الأميركي الإسرائيلي في المنطقة. ولذلك فقد انبرى هؤلاء لمعركة الدفاع عن دمشق. وبالنتيجة انسحب اثنان من وزراء الحكومة اللبنانية الحالية، التابعين لحركة "أمل" و"حزب الله"، وكلتاهما حركتان شيعيتان نافذتان، ما أسفر عن تعطيل نفاذ وسريان قرارات مجلس وزراء الحكومة. ومن جانبه رفض الرئيس إميل لحود، الموالي لدمشق هو الآخر، توقيع اسمه على الوثيقة القاضية بإنشاء المحكمة الدولية المزمع إنشاؤها. وليس ذلك فحسب، بل رفض أيضاً نبيه بري، رئيس البرلمان اللبناني، دعوة الجمعية للانعقاد، بغية المصادقة على قرار إنشاء المحكمة.
وإلى ذلك واصل الكثيرون من قوى المعارضة حملة اعتصام خارج مبنى الحكومة، على امتداد عدة أسابيع، في مسعى منهم للإطاحة بحكومة فؤاد السنيورة الحالية.
وعلى نقيض ذلك تماماً، يرى معارضو النفوذ السوري على لبنان، الذين تساندهم كل من واشنطن وباريس، في تلك المحكمة، أنها ليست سبيلاً لمعاقبة قتلة الحريري والقصاص منهم فحسب، وإنما هي بنظرهم وسيلة كذلك لإحقاق السيادة الوطنية اللبنانية، ولتخليص لبنان من أي نفوذ سوري عليه. ولهذا السبب فإن الطبيعة الرئيسية لهذا الجدال، هي سياسية أكثر من كونها قانونية. ثم إنه جدل أكثر انشغالاً واهتماماً بمطامع القوى الخارجية في لبنان، منه بالصراع الداخلي اللبناني من أجل السلطة.
وكان الأمين العام للأمم المتحدة، "بان كي مون"، في زيارة قريبة إلى دمشق، أمل خلالها في إقناع الحكومة السورية بالمساعدة في حل الأزمة السياسية اللبنانية الراهنة، عن طريق الموافقة على إنشاء المحكمة الدولية المعنية. غير أن الذي شاع، أن الرئيس السوري بشار الأسد رد دبلوماسياً على ذلك الطلب، واصفاً الأمر بأنه شأن لبناني صرف. إلى ذلك باءت زيارة نيكولاس مايكل، المستشار القانوني لـ"بان كي مون"، الأخيرة إلى بيروت بالفشل في إقناع الساسة اللبنانيين بتجاوز خلافاتهم ووضع حد للشلل السياسي الذي أصاب بلادهم جراء الخلاف حول إنشاء المحكمة الدولية. وفي سبيل إخراج لبنان من مأزقه الحالي، واصلت الدبلوماسية الفرنسية مساعيها لإقناع مجلس الأمن الدولي، بتجاوز الاعتراضات الداخلية اللبنانية، والمضي قدماً في إنشاء المحكمة، بموجب نصوص الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهو الباب الذي يجيز لمجلس الأمن الدولي، اللجوء إلى الإجراءات القهرية في حل نزا ع ما، فيما لو رأى المجلس أن فيه ما يهدد السلم الدولي. غير أن عدداً من دول المجلس، لاسيما قطر والصين وروسيا، أعربت عن عدم موافقتها على ذلك الإجراء.
والمعضلة الكبرى أيضاً، أن مقتل الحريري كان عملاً إجرامياً منكراً دون شك، بيد أنه لا يمكن وصفه بأنه جريمة دولية بكل ذاك القدر الذي يتطلب إنشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة الجناة فيه، على غرار المحاكمات الخاصة التي أنشئت لمحاكمة مرتكبي جرائم التطهير العرقي بحق قبائل "التوتسي" في رواندا سابقاً، أو لمحاكمة نظرائهم من مرتكبي مثيلتها من جرائم التطهير العرقي في يوغوسلافيا السابقة. وبالقدر نفسه فإنه يصعب وصف النزاع الداخلي بين مؤيدي ومعارضي النفوذ السوري على لبنان، بأنه يشكل مصدر قلق أو خطر على السلم الدولي.
ولنذكر هنا أن مجلس الأمن الدولي، كان قد سارع في السابع من أبريل عام 2005، أي بعد مدة وجيزة من مصرع الحريري، إلى اتخاذ القرار رقم 1595، الذي أنشئت بموجبه لجنة خاصة، كلفت بالتحقيق في ملابسات الحادث. وكانت تلك الخطوة بحد ذاتها، جريئة ومفارقة للأعراف الدولية. والأكثر من ذلك، فشل قاضي التحقيق الرئيسي في تلك اللجنة، "ديتليف مليس"، في تقديم ما يفيد من الأدلة في إثبات مزاعمه القائلة بضلوع دمشق في تلك الجريمة. أما خلفه البلجيكي "سيرج براميرتز"، فقد كان أكثر حصافة وأقل استفزازاً من سابقه فيما يبدو، بمطالبته بتمديد مهمته عاماً آخر كي يتمكن من مواصلة تحقيقاته في ملابسات الحادث.
وفي المنحى ذاته قال شيراك، في الخامس والعشرين من فبراير الماضي، بمناسبة ذكرى الحريري، إن صديقه -أي الحريري- كان رجل دولة ذا رؤية نافذة، وإن موته خلف جرحاً غائراً لا يندمل. على أن الأمل الوحيد، هو أن يندمل جرح المؤسسات السياسية اللبنانية، وأن تتم تسوية العلاقات السورية- اللبنانية، لما لها من حيوية وأهمية بالغة لكلتا الدولتين الجارتين، على أساس من التفاهم والاحترام المتبادلين.