اضفى القتال العنيف الذي اندلع في شمال لبنان بين الجيش اللبناني و «فتح الاسلام» - الجماعة الاسلامية الراديكالية السنية - على الأزمة اللبنانية بعدا جديداً وخطيراً: انه تهديد جديد لحكومة فؤاد السنيورة الهشة، الموالية للغرب، والمحاصرة داخليا بين «حزب الله» - حركة المقاومة الشيعية - وجماعات أخرى موالية لسورية.
لقد فقد الجيش اللبناني، حتى منتصف هذا الأسبوع، أكثر من 30 من عناصره، كما فقد الاسلاميون، على الأرجح، ذات العدد من القتلى. اما الضحايا المدنيون فيتوقع أن يزيد عددهم عن هذا الرقم في مخيم نهر البارد، المخيم الفلسطيني البائس الذي تعرض للقصف المدمر العشوائي من قبل الجيش اللبناني، منذ يوم الأحد الماضي، ان لم يكن أكثر بكثير.
هذا العنف المتفجر فجأة هو الأسوأ في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت من عام 1975 الى عام 1990، وهو نتيجة محتومة للفشل العالمي - وخاصة الفشل الأميركي - في تسوية الصراع العربي - الاسرائيلي، وفي ايجاد حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين المأسوية، المتفرعة عنه.
ففي لبنان وحده هناك ما لا يقل عن 12 مخيماً فلسطينياً، يعيش فيها ما يقارب 400 ألف لاجئ فلسطيني، في حالة من الفوضى العارمة، وتحت خط الفقر. وهذه المخيمات هي بؤر مستديمة لعدم الاستقرار. فالفقر واليأس هما المولدان الرئيسيان للعنف والارهاب.
وما زال مئتان أو ثلاثمئة من المقاتلين المسلحين والمدربين بشكل جيد من جماعة «فتح الاسلام» يختبئون في مخيم نهر البارد، قرب مدينة طرابلس، لكن الجيش اللبناني لا يستطيع دخول المخيم لإخراج هؤلاء المسلحين منه التزاما باحترام الوضع المستقل للمخيمات الفلسطينية في لبنان الذي تتمتع به منذ أواخر الستينات.
لقد تمكن بعض اللاجئين الفلسطينيين من الهرب من المخيم المحاصر، ولكن معظم سكانه - ويتجاوز عددهم 30 ألفاً - بقوا فيه، في حالة مزرية من الهلع، محرومين من الماء والطعام والكهرباء، ومعرضين للقصف والتبادل الكثيف النيران فوق رؤوسهم.
تلقت حكومة فؤاد السنيورة عروضا بالمساعدة العسكرية والمالية والسياسية من جهات عدة - من الولايات المتحدة وفرنسا، والجامعة العربية - وأيضاً من الفصائل الفلسطينية الرئيسية مثل «فتح» و «حماس»، تخوفا من أن تتسبب تحركات جماعة متطرفة مثل «فتح الاسلام» في تدمير القضية الفلسطينية. وذكر أن قوة من «فتح» قوامها 300 رجل توجهت الى المخيم لمساعدة الجيش اللبناني على مواجهة المتطرفين.
لقد سلطت الأزمة الراهنة الضوء على العماد ميشال سليمان، قائد الجيش اللبناني، الذي قد لا ترحب القيادات السياسية المدنية في لبنان بتصاعد نفوذه، سواء كانت من الموالاة أو المعارضة.
ان «فتح الاسلام» هي أبعد ما تكون عن تنظيم فلسطيني مسلح، بل لعل الأصح انها ليست منظمة فلسطينية على الاطلاق. ولئن كانت أقلية من أعضائها من الفلسطينيين، فإن الأكثرية، كما تشير هوية أكثر الذين قتلوا أو جرحوا أو قبض عليهم، تنتمي الى عدد من البلدان العربية أو الآسيوية، والبعض منهم «مجاهدون» قدامى شاركوا في حروب أفغانستان والعراق، ويبدو ان الجماعة مرتبطة، أو على الأقل تستوحي في توجهها وسلوكها افكار المنظمة الأم «القاعدة».
و «فتح الاسلام» منظمة أصولية من افرازات «فتح - الانتفاضة»، وهو فصيل فلسطيني دأبت سورية على دعمه عبر السنوات، لمواجهة نفوذ حركة «فتح» عندما كانت بقيادة الزعيم الراحل ياسر عرفات داخل المخيمات الفلسطينية في لبنان. ولكن «فتح - الانتفاضة» تلاشت في السنتين الأخيرتين، لتحل محلها «فتح الاسلام» المنشقة عنها، والتي تمكنت من السيطرة، ان لم يكن على المخيم بكامله، فعلى الأقل على جزء كبير منه.
ويبدو ان هذا التطور قد أغرى «الجهاديين»، من مختلف الجنسيات، الراغبين في استغلال الحرية النسبية التي تتمتع بها المخيمات الفلسطينية، وعدم خضوعها المباشر للتدخل الحكومي، لنقل ساحة المعركة الى سورية ولبنان المتاخمتين لحدود عدوها اللدود اسرائيل.
لقد سارع أعداء دمشق الى الزعم بأنها تستخدم «فتح الاسلام» لزعزعة الاستقرار، وخلق المتاعب لحكومة فؤاد السنيورة، بهدف الحيلولة دون قيام المحكمة الدولية التي ستحاكم قتلة رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري. واتهم الزعيم الدرزي وليد جنبلاط ، وهو أحد ألد أعداء سورية، «فتح الاسلام» بأنها منظمة «عميلة» لسورية. وذهب عبدالحليم خدام، نائب رئيس الجمهورية السوري السابق الذي يرأس الآن حركة معارضة هدفها اسقاط نظام الرئيس بشار الأسد ابعد من هذا، اذ أعلن ان «سورية هي المسؤولة «بشكل حاسم، لا لبس فيه.
على ان كل هذه الاتهامات تفتقر الى الأدلة. ويمكن أن تشير استجوابات بعض الناشطين من «فتح الاسلام»، الذين القي القبض عليهم، الى احتمال وجود علاقة بينهم وبين سورية، ولكن جميع الدلائل المتوفرة، حتى الآن، توجه التهمة الى اتجاه آخر.
لقد قضى زعيم جماعة «فتح الاسلام»، المدعو شاكر العبسي، سنوات عدة من عام 2002 الى عام 2005 في السجون السورية. انه نموذج للأصولي السني الذي كان يحاربه النظام السوري منذ عام 1970، وأمثاله يكرهون ويحرمون التعامل مع النظام السوري بقيادة حزب البعث، لأسباب ايديولوجية وطائفية، ويبدو من غير المعقول ان يقبل التعاون مع الاستخبارات السورية، كما لا يبدو أن سورية هي وراء قيام جماعة «فتح الاسلام « لسبب بسيط، وهو ان هذه الحركة السنية المتطرفة تشكل خطرا محتملا على الأمن السوري، بحكم وجودها في مدينة طرابلس في شمال لبنان.
ويشير بعض المراقبين من الخبراء العارفين بتعقيدات المشهد اللبناني، الى ان السنة في لبنان كانوا يشعرون دوما بضرورة أن تكون لهم قوة مسلحة مستقلة خاصة بهم. فالشيعة لديهم «حزب الله» الذي يتمركز في الضاحية الجنوبية لبيروت، والمسيحيون المتشددون كانت لهم، وربما لا تزال، قاعدتهم المسلحة في الأحياء الشرقية من العاصمة.
كان السنة يعتمدون على «العضلات» الفلسطينية في السبعينات، ولكن موقفهم اصبح ضعيفاً بفعل عدم وجود ميليشيا خاصة بهم، منذ طرد منظمة التحرير عام 1983. وأكثر من ذلك، فالسنة في لبنان غالباً ما شعروا بأنهم لا يستطيعون الاعتماد على الجيش الذي يشكل قوة مختلفة ومتنوعة طائفياً، ومحايدة بشكل معقول. وحاول الرئيس الراحل رفيق الحريري أن يشكل قوة الأمن الداخلي، على أن تكون سنية في غالبيتها، ومزودة بجهاز استخبارات خاص بها، لتكون موازية للجيش، ولكن هذه التجربة لم تكن ناجحة تماماً.
ويرى بعض المحللين ان جماعة أصولية مثل «فتح الاسلام» كانت مقبولة في البداية من قبل السنة في لبنان، بل لعلها كانت ممولة من قبلهم، اذ كانوا يرون فيها نواة لميليشيا يحتاجون اليها. وكانوا متشوقين الى أن يكونوا قادرين على اثبات انهم يمكن أن يقفوا في وجه الشيعة وسورية معا.
ولكن حين تحولت «فتح الاسلام» الى عصابة من المجرمين، متورطة في سرقة البنوك، وأعمال عنف اخرى، وحين اخترقها «الجهاديون» الأجانب، لم يكن بوسع الفريق السني في تحالف حكومة السنيورة أن يتساهل معها أو أن يبدو على صلة بها، وهكذا سمح للجيش أن ينقض عليها.
ومهما يكن من أمر، فهناك حدود للدعم الذي يمكن أن يقدمه السنة المعتدلون للجيش في معركته ضد «فتح الاسلام»، من دون أن يجازفوا باثارة غضب الشارع السني والناشطين الفلسطينيين في المخيمات الذين يسوؤهم أن يتعرض أخوة لهم للقصف من قبل الجيش اللبناني. ولهذا فان على حكومة فؤاد السنيورة أن تجتاز طريقا وعرا وخطيرا للخروج من الأزمة.
****
أعلن نائب رئيس دولة الامارات وحاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، في الأردن، في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد في بقعة هادئة، على مقربة من البحر الميت، الأسبوع الماضي عن اطلاق مؤسسة تعنى بالتنمية الانسانية في المنطقة، برأسمال قدره 10 بلايين دولار. ويرغب حاكم دبي أن يطلق مراكز متخصصة بالأبحاث ذات المستوى الرفيع، وأن يخصص منحا دراسية لطلاب عرب يوفدون الى الجامعات الكبيرة، ويعدون برامج متقدمة تؤهل الشباب العرب للعمل في المؤسسات الحكومية وغير الحكومية.
هذه مبادرة رائعة تصدر عن حاكم نجح في تحويل بلده دبي الى ما يشبه المعجزة الاقتصادية، ولكن لا يمكن تحقيق شيء يذكر لتوفير الاستقرار في الشرق الأوسط الموبوء بالصراعات، ولا تطويره، ما لم يتم التوصل الى تسوية سلمية مع اسرائيل، وما لم تتم تسوية قضية اللاجئين الفلسطينيين على أساس التوطين أو التعويضات، وما لم تقم الدولة الفلسطينية المستقلة.
لقد أعلن شمعون بيريز، نائب رئيس الوزراء الاسرائيلي، في الأردن، ان بلاده ستستجيب لمبادرة السلام العربية بأسرع وقت ممكن. ولكن المرء يتساءل: متى سيتحقق هذا الوعد؟