ليس الاختلاف في الرأي تشرذما أو فرقة ولا التعددية انشقاقاً، بل هي من عناصر غنى الأمة الديموقراطية، فالأمة الديموقراطية ليست مولودا عضويا موحدا بل نتاج تفاعل التعددية والاختلاف في إطار سياسي واحد ذي سيادة وجهها الآخر هو المواطنة. ولكن ما يخشى عربياً هو التشرذم والفرقة والانقسام داخل الكيانات السياسية اذا تحول الخلاف إلى صراع هويات تمثل مصالح صيغت بشكلٍ لا يمكِّنها من العيش في إطار سياسي واحد، ومنها الطائفة والقبيلة وغيرها إذا سيِّست.
وكأن هذه الجماعات العضوية القائمة لا تكفي نجدنا من ناحية أخرى نحول بأيدينا فوارق واختلافات وصراعات طبقية واجتماعية لا علاقة لها بالهويات الى هويات وثقافات وانتماءات وذلك بفعل زج عناصر أخرى مثل الفجوة في الثقافة والتربية. بأيدينا نقترف ببلاهة جريمة خلق فرقة غير قائمة.
وفيما ننظر من حولنا بذهول إلى حالة تشرذم السياسة العربية تجري الحياة اليومية وتعيد انتاج مقومات الفرقة والانقسام، ولكنها لا تلفت النظر عندما لا تكون سياسية صارخة أو طائفية أو عشائرية.
خذ مثلا مسألة اللغة العربية، ولا أقصد هنا تعدد اللهجات العربية أو تطور الفصحى، بل أقصد تحول اللغة العربية واستخدامها الى إشكال اجتماعي بدأ يحول فئات اجتماعية متباينة طبقياً إلى ثقافات متباينة. يجري هذا باتجاه معاكس لصيرورة أخرى إيجابية بفعل توحيد وسائل الاتصال للسوق الاعلامي. فهي تنتج موضوعيا لغة موحدة تتموضع ما بين المحكية والفصحى وتقرب اللهجات من بعضها بعضاً في الوقت ذاته.
ويصعب على مواطن ياباني او فرنسي او الماني او حتى اسرائيلي أن يفهم كيف يمكن ان يولد أطفال لوالدين فرنسيين أو يابانيين او المانيين او اسرائيليين ينمون وينشأون في بلدهم، ولكنهم لا يتحدثون لغتهم الأم لا في البيت ولا المدرسة، ولا يدرسون العلوم في بلدهم بلغتهم. فهذا أمر طبيعي ويديهي بنظر مواطن تلك البلاد ومطلوب حتى من المهاجر في بلده، فكم بالحري ممن ولد فيها؟ ولكن في بعض اوساط الطبقة الوسطى العليا في بعض الدول العربية من فاق اليابانيين والفرنسيين والكوريين والألمان تطورا. وبات استخدام الانكليزية في البيت والمدرسة وبين اهل عرب وأبنائهم في بلد عربي حالة منتشرة. وهي تؤسس لتحول الخلاف السياسي والطبقي والاجتماعي الى خلاف حضاري يحولنا إلى أكثر من شعب في البلد نفسه. نحن نؤسس بأيدينا لأن تصبح خلافاتنا في المستقبل حرب ثقافات. وحتى حيث لا يوجد سبب بين لذلك أو أساس موضوعي لذلك، فنخن نتكفل بصنعه.
يُكثر العديد من مدعي التنور العرب الحديث عن التفاعل بثقة مع العولمة بدل اعتبارها مؤامرة على العرب، والنهي عن الاحتجاج عليها والحث على الأخذ من الحضارة الإنسانية بفعل التفاعلات الكبرى الجارية في العلوم وفي اقتصاد السوق والحاجات الاستهلاكية وانماط المعيشة وغيرها، وأن نسأل انفسنا ماذا نقدم كحضارة للحضارة الانسانية في هذا العصر. وهذا حسن، ونحن نؤيد هذه النزعة لطرح هذا النوع من الأسئلة. ولكن كل الشعوب والدول التي ترفض إدارة الظهر للعولمة العلمية والتقنية والاقتصادية وتتفاعل معها وتتطور وتطوِّر مساهمتها من خلال ذلك بنماذج مثل اليابان وكوريا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وحتى إسرائيل العنصرية إنما تفعل ذلك بلغاتها هي. وتبقى الانكليزية لغة ثانية يفترض ان يتقنها المتعلمون طبعاً.
ويبدو لي ان المجتمع الذي لا ينجز ذلك في بلده بلغته، لا يتفاعل مع العولمة في الواقع ولا يتطور معها بل يقلد ولا يبدع، ويكرس تخلفه وتخلف مجتمعه. من لا يتفاعل مع العولمة ولا يجاري التطور في الاقتصاد والعلم والفنون بلغته يبقى على هامش الحضارة الانسانية ولا يساهم فيها، بل أكثر من ذلك يحجب التطور عن لغته ذاتها. فاللغة، ومعها المفاهيم والثقافة، لا تتطور اذا أقصيت عن الاستخدام في المجالات الديناميكية المتطورة والمتغيرة باستمرار مثل العلوم والفنون والاقتصاد، وإذا اقتصر استخدامها على الأدب والمقالة والخطابة مثلا. نحن نجد أنفسنا أمام وضع يتخرج فيه طالب جامعي من جامعته من دون أن يقرأ مقالا علميا واحدا بالانكليزية من جهة، ويتخرج آخر لا يتقن العربية من جهة أخرى ولم يستخدمها أصلا كلغة دراسة وتدريس منذ المدرسة الابتدائية. وكلاهما وجهان لعملة التخلف العلمي والاجتماعي نفسها.
«حتى» في الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا وكندا يتم التعليم والبحث والتدريس باللغة الأم، وهي في تلك الحالة اللغة الانكليزية. وعندما يستخدمها السكان لا يقلدون بذلك أحدا. إنها لغتهم الأم. وفي داخل كندا ذاتها، في إقليم كيبك يصر الناس على التعامل اليومي والرسمي والتدريس والتربية والبحث بالفرنسية.
يندب أبناء الطبقات الوسطى العليا العرب حال الجامعات والمدارس العربية ويتذمرون من وجود الجامعات الاسرائيلية الست بين الألف جامعة المصنفة أولى في العالم، وغياب الجامعات العربية عنها كافة. ويعكف بعضهم على بناء مدارس وجامعات خاصة تدرِّس بلغات أخرى غير العربية معتقدين أن هذا هو الحل.
توجد في إسرائيل جامعات خاصة وجامعات رسمية تابعة للدولة. وكلها تدرس بالعبرية، فقط بالعبرية. وسميت الجامعة الاولى الجامعة العبرية وليس اليهودية أو الإسرائيلية، نسبة الى اللغة والثقافة التي تريد احياءها وتطويرها من خلال التدريس بها والبحث العلمي بواسطتها. والجامعات الست المرموقة، بما فيها كلية الهندسة التطبيقية، هي العامة التابعة للدولة، لأن الدولة فقط تتمكن من رعاية البحث العلمي بهذه الكثافة، اما الجامعات الخاصة فهي كليات تدريس ومصانع شهادات في مواضيع مهنية غالباً. الحالة مختلفة في الولايات المتحدة طبعا حيث رأس المال المستثمر في التعليم الخاص والصناعة في الوقت ذاته، ولكن ليس هذا موضوعنا.
ولا توجد في إسرائيل مدرسة واحدة تدرس بغير العبرية إلا إذا كانت لأبناء العاملين في السفارات الاجنبية. فالعبرية في حالتهم ليست مجرد تواصل بل أداة بناء الأمة. وهي لغة لم تستخدم قرونا عديدة في الحياة اليومية وعندما نفض عنها الغبار كانت أقدم وأقل مرونة وغنى من العربية بفعل تحنيطها في الكتب المقدسة والتلمود وبعض الشعر، ولكن استخدامها بهذه الكثافة في العلوم والفنون والتعامل اليومي وفي إنتاج الحداثة بشكل عام فتحها للتطور. ونحن لا نود التوقف كثيرا عند هذا الموضوع، بل نود أن نؤكد فقط أن كلاً من التعليم الرسمي والخاص في اسرائيل يستخدم اللغة العبرية.
ليست الحالة الإسرائيلية نموذجا يقتدى بالضرورة، ولكني اجلب هذا المثل لأن المتغرِّبين العرب عموما مندهشون من إنجازاتها رغم كونها كولونيالية، وتصل الدهشة أحيانا حد الإعجاب كتعبير كسول عن نفور من الحالة العربية، وذلك من دون معرفة بالتجربة الإسرائيلية ذاتها ومن دون استعداد لمواجهة استحقاقات مثل هذه التجربة...
وخبراء التخطيط الأميركيون أنفسهم الذين يمتدحون التجربة الإسرائيلية في التعليم أمام مستمعيهم العرب، لا يستوقفهم أن الطالب الإسرائيلي يخرج من هذه التجربة بانكليزية مكسرة ومضحكة كلغة ثانية، ويشجعون الانتقال للتدريس بالانكليزية عند العرب... نقطة للتفكير.
ومن معرفتي بمناهج التدريس الرسمية في مدارس لبنان والأردن ومناطق السلطة الفلسطينية فإنني اعتقد انها لا تقل جودة عن الاسرائيلية وحتى الاميركية، ان لم تكن اجود. ولا استبعد أن يسري هذا الحكم على دول عربية اخرى لا أعرف مناهجها. الفرق في حالة إسرائيل هو في الاستثمار المالي والاجتماعي الرسمي في التعليم، وحجم هذا الاستثمار من الموازنة وتوزيع العبء التخطيطي بين البلدية والحكم المركزي واهتمام اولياء الامور.
وكلما زادت الفجوة الاجتماعية في إسرائيل نشهد مظاهر تردي التعليم كما في بلدان العالم الثالث وكما في حال المدارس المتوفرة لأبناء الطبقات الفقيرة في الولايات المتحدة. وعلى كل حال لا يكمن الحل بإقامة مدراس جديدة للنخبة تدرس بمنهج آخر ولغة أخرى غير العربية. فهذا يفقر ويقلل الاهتمام بالتعليم العام، ويسحب منه الطلاب والمعلمين الجيدين والأكفاء ويفقر اللغة. وإذا كان هذا كله لا يكفي، نضيف الامر الحاد الذي بدأنا به هذا المقال أنه يحول الفئات الاجتماعية المتفاوتة طبقيا الى ثقافات تكاد تكون شعوبا تتكلم لغات مختلفة وتتابين في الفضاء الثقافي والذوق والعاطفة وحتى في روح الدعابة. وطبعا تهيمن ثقافة الطبقة على من يقدم لها الخدمات حتى لو كان نادلا في مطعم أو سائقاً فإنه يجد نفسه يتكلم الإنكليزية المكسرة متباهيا دونما حاجة، لأن من يتكلم معهم يتقنون العربية مثله ولا يتقنون الانكليزية مثله ايضا.
لا يجارينا في هذا الوضع سوى الهنود. وقد يفطن أحدهم الآن بعد أن ذكرته فيعيرني قائلاً: أنت تناقض نفسك فالأخيرون باتوا يبدعون في العلوم. هذا صحيح، ولكن الإبداع الرئيسي الذي يتفوقون فيه هو في علوم هي لغات قائمة بذاتها مثل الرياضيات وعلوم الحاسوب. وهنالك طبعا آلاف الهنود الذين يبدعون في العلوم والفنون والآداب في سياق آخر ودول أخرى في الغرب مثل آلاف العلماء العرب الذين يبدعون في الخارج. يجري هذا في سياق ثقافي مختلف تماما، ولا يعني إطلاقا مساهمة عربية في العلوم والفنون. ولا يعني مساهمة في تطوير الثقافة العربية او المجتمع العربي. فمساهمة العربي التي نعتز بها في فرنسا أو أميركا فرنسية أو أميركية أو هي على الأقل جزء من التنوع القائم في فرنسا أو أميركا، ومن إنجازات مؤسساتها الأكاديمية والثقافية، ولا مانع بعد ذلك من الافتخار لمن يريد.
في مراحل النهضة العربية الواعدة كان ابناء الطبقات الميسورة يصلون حتى الى جامعات اكسفورد وكامبردج وغيرها بلغة عربية كلاسيكية وانكليزية ممتازة، ويتخرجون ويبدعون بلغتهم الام، وقد تطوروا بالعربية، وطوروا اللغة العربية. وكان هذا من معالم النهضة.
ونحن لا نعتبر هذا النموذج مقدساً، ولا يجوز التعصب، فلا يضير احدا ان يستخدم تعبيرا بالانكليزية من علم من العلوم في كلامه لغرض الدقة ثم يترجمه فورا بعد ذلك مفتتحا حوارا أو على الاقل تفكيرا حول افضل ترجمة له. لا مشكلة في إدخال تعبير هنا وتعبير هناك من اللغات الاجنبية في الكلام في إطار السعي لإيجاد مرادف عربي.
أما النفور من العربية من دون إتقان الانكليزية ولا غيرها فهو مؤشر على إمكانية انحلال وليس دليل نهضة. والأهم من ذلك أن ما يجري دونما حاجة هو زرع بذور نبتة شقاق سامة بين ثقافتين متباينتين. ما فعله المستعمرون الفرنسيون في الجزائر حوَل الصراع الاجتماعي بعد عقود الى صراع ثقافي دموي ترافقه أزمات هوية حادة وردود فعل عصابية جماعية، نقوم نحن بصنعه بأنفسنا في مرحلة الانحلال هذه.
نقطة للتفكير.