من حسن الحظ أن مسلسل €حسيبة€ يقدم نموذجاً نسائياً مختلفاً عن النموذج الذي عممته €دراما التراث السياحي€, المرأة التي حياتها بيتها, فتفني نفسها في الطبخ والنفخ وإشباع رغبات الزوج وتلبية حاجات الأولاد.
حياة بسيطة سطحية تستمد تشويقها من نمائم الجارات وتزويج البنات والأخوة. أما عمقها الذي يعطي لوجودها معنى فهو آلام الولادة, وما يحيط بها من تعاضد نسوي اجتماعي لا يظهر إلا وقت الشدة. أما في حالات الطلاق, فهي إما شامتة, أو خائفة من مواجهة المصير ذاته, كمصيبة كبرى تجاهد كي لا تحل بها. هذه الصورة التي تفتقت عنها مخيلة دراميي التراث السياحي للمرأة الشامية, هي اقرب للجارية منها لسيدة البيت الشامية, صاحبة الكلمة الفصل في كل ما يتعلق بحياة أفراد أسرتها. فالمرأة لم تكن سلبية ومستلبة إلى هذا الحد الذي تظهر عليه, ومن المفارقة أن يلاقي هذا النوع من المسلسلات رواجاً في الأوساط الشعبية, رغم علاقتها الواهية بالواقع سواء أكان في الماضي أو الحاضر, فهي لا تعطي نموذجاً معقماً, وإنما أنموذجاً بائساً ومشوهاً يعكس عقداً اجتماعية راهنة, فالعقل الجمعي الذكوري المتخلف يجد في هذه الأعمال تحقيقاً لأمنيات ضائعة, وما لا يجرؤ على المطالبة به لتعظيم الذات الذكورية. تأتي هذه الأعمال لتقدمه كجزء من التراث التليد, وكنمط أصيل تم الخروج عنه أو التمرد عليه, ويجهد صناع هذا النمط لإبراز فداحة ما خسرناه بسبب هذا «التمرد».
للأسف, هذه الأعمال لا تنكأ قروح التخلف وتقدمها كوصفات سحرية لتحقيق السلام الأسري وحسب, بل أنها تخترع تخلفاً مضافاً, يجعلنا نرى تخلفنا الراهن تقدمية مدمرة. فنمكث نراوح في التخلف بين الحنين لماض متخيل ورفض لحاضر مرتبك, والعلة ليست في الماضي ولا في الحاضر, بل في العين الذي تقرأه من نظارة التمنيات لا الواقع. فالواقع إن المرأة الشامية عاشت حياة غنية, وحين كانت محتجبة خلف الجدران جلبت العالم إلى بيتها لتمارس دورها الاجتماعي الفاعل والمؤثر, وحين خرجت كانت مع المثقفين والسياسيين والتجار وانتزعت مكاناً لها في الحيز العام.
قد يكون حجم حضورها ضئيلاً قياساً إلى مساحة حضور الرجل, لكنها كانت ولا تزال موجودة. هنا لا بد لنا من التنويه بالنموذج الذي قدمه مسلسل €حسيبة€ للمرأة, في الريف والمدينة, فترة الانتداب الفرنسي على سوريا, فهي في الريف حرة مستقلة تحمل البندقية إلى جانب الثوار, وهذا لا تتفضل به المسلسلات على المرأة الريفية, بل فيها الكثير من الحقيقة, وحكايا الجدات مملوءة بقصص نساء عرفنهن أو سمعن عنهن, يعتبرن مثالاً في الشجاعة والقوة والجرأة, من اللواتي كن وقت المواجهة لا يهبن عسكرياً فرنسياً ولا دركياً عصملياً, وأخريات كثيرات كن يقطعن مسافات واسعة في البراري لتحصيل لقمة العيش والمساعدة في إعالة الأسرة الكبيرة. كما قدم مسلسل €حسيبة€ نموذجاً للخانم ابنة المدينة والمجتمع المحافظ كامرأة غنية من الداخل, تعبر عن نفسها بالرسم والإبداع, وأيضاً حرة تمتلك الإمكانية والقدرة على المبادرة واتخاذ القرار.
النساء في هذا العمل أكثر تنوعاً وغنى وعمقاً من نظيراتهن السياحيات في الأعمال المتكنية زوراً وبهتاناً بالبيئة الشامية, ومن حسن الحظ أن تعرض هذه الأعمال معاً, كي لا تكون كل أعمالنا الدرامية بازارية, تراعي منطق السوق الفضائي, ولو على حساب التاريخ والتراث والمجتمع السوري, بكل ما يعنيه ذلك من تزييف يغرقنا في جدل عقيم حول نماذج خرافية يقال إنها شعبية يبتكرها صناع دراما ساذجين كي لا نقول مغرضين.
هذا لا يقتصر على المرأة, بل يطاول الرجل أيضاً, وعلى سبيل المثال يطل علينا رجل الأمن السوري في أحد الأعمال التي تدور أحداثه في الثمانينيات كرجل مافيا خارج من السينما الهوليوودية, مع فارق أن بطلنا المحلي مترهل ثقيل الحركة, حليق الرأس, سقيم يتصنع الغموض, ويتحدث ببطء حتى البلاهة, يتحرك ضمن عائلة منسوخة فوتكوبي من الأفلام الروسية مع الفاتنة ذات الضفائر الطويلة الشقراء, والعجائز الأنيقات الصامتات البائسات المكتفيات بمراقبة العقيد الجبار والمتجبر, وهو يتجول في منزله أوقات الراحة بكامل قيافته و أناقته الأوروبية. كأن من رسم هذه الكاركترات تلبسته صور السينما الغربية, فغرق فيها وعاشها أكثر من عيشه في سوريا الثمانينيات ولا حتى الآن, فكأنه لم ير في حياته رجال الأمن السوريين في الساعات المبكرة من الصباح, وهم يركضون في الحدائق العامة والأندية الرياضية حفاظا على لياقتهم البدنية العالية, وأن أمهاتهم العجائز في الضيعة منصرفات لشؤونهن اليومية كسائر الأمهات, ولم يسمع عن رجل أمن سوري في حياته, يمطر سامعه بزخات من الكلام السريع باللهجة الأصلية, حين لا مجال للتأني ولا الغموض البوليسي المفتعل, لدى الوصول إلى آخر سطر في الإضبارة.
الواضح أن واضع الرؤية الإخراجية لهذا العمل اقتبس ما أدهشه من بصريات السينما العالمية, ليسبغها على النص المحلي بغض النظر عن تناقضها مع بيئة محددة المكان والزمان, فلم يربح ما حاول استنساخه بفنية لافتة, وخسر مقاربة واقعية لفترة خطرة مررنا بها, ومازلنا نعيش ذيولها حتى الآن.
مراعاة متطلبات السوق الفضائية السياحية, وهوس استعراض القدرات الفنية البصرية, غالباً ما يسقطانا في جدال عقيم حول تفاصيل سطحية, صارت من نوافل الفن في العالم, لتبقى القضايا الأساسية بعيدة عن أي جدل حقيقي, يضع الأصبع على الجرح دون مواربة, والذي هو سر النجاح الحقيقي للفن الدرامي العالمي, والذي يعني إثارة سجالات تقود إلى التغيير في المجتمعات والبشر والفن والحياة, لا سفسطة تملأ مساحات البث والفراغ بفكر سقيم ومسلسلات أسقم.