لم يكن الباحث الإعلامي البلجيكي ميشال كولون مخطئاً عندما كتب قبل حوالي عقدين بأن ما عليك إلا أن تضع أمامك خريطة العالم، وتضع عليها بالأحمر نقاط حقول النفط لتعرف مكان الحروب المقبلة.
ولكن العامل الاقتصادي على أهميته لا يشكل السبب الوحيد للحروب، حتى لو أنه لا يغيب عن أي منها. وإذا كانت لكل منطقة خصوصيتها بالنسبة للأسباب الأخرى، فإن خاصية منطقتنا تتمثل أكثر ما تتمثل في عاملين: الموقع الجغرافي ووجود “إسرائيل”، إضافة إلى أن العامل الاقتصادي نفسه لا يقتصر على النفط، إذ تحتل المياه مكاناً أساسياً فيه وتليها جملة عناصر تتدرج في أهميتها.
جملة التحليل الاستشرافي فسرت لنا سابقاً الحروب التي أكلتنا منذ بدايات القرن الماضي. حروب انتهت بما شكل فعلاً “أم المعارك”، لأنها انتهت بحسم السيطرة على نفط العراق والخليج العربي كله، على مياه العراق وسائر ثرواته، وعلى العقدة الجيواستراتيجية المتمثلة في هذه المنطقة في وجه النمو المهدد لأحادية الإمبراطورية، سواء جاء من صقيع روسيا أو من حر آسيا أو من توق أوروبا، كما أنه انتهى بالسيطرة الصهيو أمريكية على القرار السياسي العربي، فيما يضمن التهويد السياسي الاقتصادي وربما الثقافي الذي أراده دعاة الحل غير العسكري من الصهاينة، الحل الذي يحفظ دماء اليهود وقدرات دولتهم، كما حصل في العراق، حيث تخلصت الصهيونية من القوة العربية الحقيقية من دون أي ثمن.
وما أن تم احتلال العراق، حتى انتقل الصراع إلى السودان، الذي يشكل جنوبه مخزن نفط كبيراً يقدر احتياطيه بنحو 4.6 مليار برميل، أي خامس أكبر احتياطيات في إفريقيا. ويشكل موقعه بوابة إفريقيا ومتنفس مصر.
لكن هل يشكل هذا الحال قدراً أبدياً ينام على حريره الصهاينة والغرب؟ الجواب سلبي بالطبع، وبدليل واقع ما يحصل على أرض العراق نفسه، وعلى ساحات عربية أخرى بنسب متفاوتة، منها الساحة السودانية. وبإدراك واقع آخر هو واقع التحولات الدولية التي بدأت تهز العرش الإمبراطوري بعنف. إضافة إلى أن غفوات الشعوب لا تدوم، حتى لو كانوا من أهل الكهف.
في ظل هذه القراءة الموضوعية، تدرك الانتلجنسيا المعادية أن عليها أن تقرأ الخريطة العربية جيداً، لتستشرف أين تكمن عناصر التهديد المستقبلي ولو بعد حين، ويبدو واضحاً أن التهديد الأول والأخطر هو الخروج من التجزئة، والعبور إلى حالة ما من الاتحاد بين العرب أيا يكن شكلها وهذا ما يبدو أن القوى الاستعمارية، والتخلف الداخلي، والتناحر الكياني، نجحت في إبعاده حتى أمد بعيد. في الدرجة الثانية، يأتي التهديد الذي يمكن أن تشكله تحولات سياسية داخل الدول المربوطة الآن بالقيد الأمريكي، والزاحفة أمام العدو “الإسرائيلي”. غير أن نظرة سريعة إلى الخريطة العربية تدل بوضوح على أن الدول الصغيرة، (الميكرو دولة) التي شكلها المستعمر من دون أن تمتلك عناصر الدولة الحقيقية لا تستطيع أن تشكل خطراً حتى لو أرادت. لذا فإن ما يبقى بعد العراق هو دولتان: العربية السعودية، ومصر، وخصوصاً الثانية حيث شبح ناصر ووراؤه قافلة من الأسماء منذ محمد علي.
لذا فإن الخطر الحقيقي يبقى كامناً في مصر. مصر التي لا تكفي بعض السياسات أن تلغي طاقتها المخزونة وموروثها المتجذر. لذا لا بد من حصارها بشكل مطبق، وخنق هذه الطاقة تدريجياً حتى الشلل: حصار لا يقتصر على التجويع والقمع، ولا على المعاهدات لأنها بالتالي نص مكتوب، ولا تقتصر على إضعاف المحيط العربي لأن بإمكان مصر إذا نهضت أن تستنهض العرب، والتاريخ شاهد.
من هنا فالحصار يعود إلى الفكرة الصهيونية التاريخية، وهي السيطرة على منابع النيل، أوليست مصر هبته؟ فكرة لم تتوقف يوماً عن التسلل إلى شعاب التطبيق، عبر التسلل إلى شعاب إفريقيا. ويكفي أن نذكر أن مصر أقصيت للمرة الأولى عن رئاسة لجنة الدول المطلة على مجرى النيل عام 1991 ومع الحرب الأولى على العراق. واليوم تبرز الخطورة القاتلة من دارفور حيث إن التقسيم سيجعل آلاف الكيلومترات من مجرى النيل تحت سيطرة قوى موالية ل”إسرائيل”.
واذا ما أضفنا هذا الاستهداف إلى ما بات يتداول مؤخراً من أن المرحلة التالية لإنشاء قناة البحرين المعروفة، ستكون مد هذه القناة إلى حيفا، فيما يلغي أهمية قناة السويس التي قامت بسببها ثلاث حروب نجح المصريون فيها بالحفاظ على سيادتهم على أهم قناة عبور في العالم.
هكذا يخطط لحصار مصر في نهرها وفي بحرها، فيما يخطط لزرع الألغام العرقية والطائفية في الداخل. تكراراً لسيناريو العراق ولكن بنفس أطول وإخراج آخر. فمن يقلب الطاولة؟