مصطلحان حكما وما يزالان جانبا مفصليا من مسألة الحريات الاعلامية منذ بداية القرن ، وخاصة منذ الحرب العالمية الاولى التي شكلت افقا مهما جدا لتطوير الخطاب الاعلامي ، اذ شكلت سرير ولادة نظرية الحرب السيكولوجية الاعلامية على يد المنظرين الاميركيين بشكل خاص. واذا كانت الحرب العالمية الثانية قد شكلت مفصلا ثانيا مهما في عملية التطور هذه عبر ثنائيتي الاعلام النازي ، واعلام الحلفاء ، فان الحرب الباردة التي تلتهما كانت المرحلة الثالثة التي صاغت نظريات وتطبيقات جديدة ومطورة لما كان قبلها . بحيث اصبحت الحروب هي الرافعة الاهم في تطوير الاعلام ، لتكون الرافعة الثانية في الغرب هي الحملات الانتخابية البرلمانية والرئاسية. وعبر هذه المحطات جميعا ، وعلى امتداد القرن تبلور كل هذا الحراك ضمن اطارين هما ما عرف باسباب الدولة وبدعاية الدولة.
اسباب الدولة ، هي الاسباب او الدوافع او الاسس التي تجعل كل دولة تحرك اعلامها بما يحقق مصالحها او على الاقل يجنبها مخاطر انتهاك هذه المصالح من قبل الاخرين . اما دعاية الدولة فهي ذلك الوجه السلبي الذي يحول الاعلام الى بوق موجه ، موجه للدعاية للنظام القائم ، وموجه الى قمع كل عقل يرفض الامر الواقع السائد ويحاول ان يخلق خطابا مختلفا حتى ولو كان سببه في ذلك رؤية معينة تجعله يرى مصلحة البلد في سياق اخر او اسلوب اخر من الادارة. لقد اعتبر الغرب والعالم معه ان اسلوب دعاية الدولة قد سقط للمرة الاولى مع هتلر وللمرة الثانية مع انهيار جدار برلين . ومن المؤكد ان الاعلاميين والجمهور المتلقي يتنفسون الصعداء ازاء ما يعتبرونه انتصارا للحرية الانسانية . وان غالبية هؤلاء تؤمن بان تقييد هذه الحرية بما سمي اسباب الدولة ، هو امر مقبول وواجب ، لان الحفاظ على مصالح الناس والاوطان هو الحد الطبيعي الواجب للحريات. واذا كانت هذه العدالة النظرية مستحيلة على الصعيد الدولي ، لان مصالح الدول هي دائما مجال تحقيق مصلحة القوي على حساب الضعيف ، والمنتصر على حساب المهزوم فان عصر العولمة واقتصاد السوق اضاف اليها استحالة جديدة حيث تحولت المؤسسات الاعلامية بغالبيتها الساحقة الى ادوات بيد اصحاب السلطات الاقتصادية والمالية ، الذين تماهوا في هذا العصر وبشكل لم تشهده الانسانية سابقا ، مع اصحاب السلطات السياسية.غياب العدالة هذا على المستوى الدولي ، وفي داخل الدول الليبرالية نفسها ، تجلى بشكل مضاعف في دول العالم الثالث ، وما يهمنا منها بالتاكيد هو دول العالم العربي ، حيث ان غياب الديمقراطية ، ووجود انظمة حاكمة مرتبطة مرتين : مرة بالاجنبي القوي والمنتصر على حقوق الوطن وعلى مصالحه وحريته ، ومرة بمراكز القوى المالية والاستثمارية ، التي يتماهى فيها رجال الحكم مع المستثمرين في حين لا تشكل المحلية منها الا امتدادا لتلك الدولية الظالمة ، قد اديا الى نشوء قمع مركب ومقنع بحديث وهمي عن الحريات .
بذا اصبحت دعاية الدولة ، التي ظن الكثيرون انها عصرها قد انتهى ، خطابا مرسخا اكثر وان بشكل اشد ذكاء ، كما اصبحت اسباب الدولة ، هي اسباب النظام الحاكم لا اسباب الدولة بمعناها السياسي الدستوري كمؤسسة دستورية للشعب وللامة.
ولعلنا من الشعوب النادرة التي يعبر خطابها السياسي بشكل فاضح عن هذه النظرة ، حيث ان كلمة الدولة عندنا غالبا ما تستعمل للدلالة على الادارة الحاكمة والعكس بالعكس . في حين ان الفارق الكبير بين الاثنتين هو ما يجعل الاولى كيانا دائما مقدسا لا يجوز المساس به ، في حين يجعل الثانية كيانا شكليا مرحليا تتوجب مراقبته والتعرض لكل اخطائه وفساده ومحاسبته وتغييره باستمرار . من هنا ادى هذا الخلط ، العائد الى ندرة تداول السلطة وغياب الديمقراطية الحقيقية الى تشويه ادعاء الحريات عندما تطلق قليلا ، والى عودة الخنق من الباب بعد خروجه من الشباك ، مرة بقفاز من حديد ومرة بقفاز من حرير ، مرة بعصا ومرة بجزرة (تزداد فاعلية اغرائها مع ثقافة الاستهلاك) للضغط على الاعلام كي يقوم بدور اكثر فعالية في خدمة الحاكم والمستثمر والاجنبي المحتل ، كل مصاصي الدماء. دور تتماهى فيه اسباب الدولة باسباب السلطة الاقتصادية والسياسية ، وبدعاية الدولة التي كانت دائما بوق النظام الحاكم. فاية معركة شرسة هي تلك التي يذكرنا بها يوم الحريات الاعلامية ، واية دعوة علينا ان نوجهها لجميع من يريدون القتال في صف هذه الحريات بان المطلوب هو التوقف عن تشريع انظمة سياسية مقيدة للحريات ، او انظمة اجتماعية قائمة على عناصر التخلف ، اوستراتيجيات وانماط تجارية مضاربة والمضي في دور تفعيل التغيير الايجابي الحقيقي الذي يقضي على عناصر التخلف دون ان يقضي على اسس الهوية وتفعيل عناصر المقاومة التي ترفض الهيمنة وترفض الانغلاق في ان لبناء فضاء عام عربي ونهضة عربية تخرجنا من الواقع الماساوي الذي نعيش.