الوثيقة التي اعتبرت مشروعا ، وعد بمناقشته مع مختلف الجهات المختصة من دول ومحطات ومؤسسات واعلاميين ، هي اشبه بخلطة غريبة من المصطلحات والتعابير التي تذكرنا بامرين : الاول العبارات التي لا يستطيع احد ان يعترض عليها في عموميتها ولكن احدا لا يستطيع ان يحدد مدى ما تحتمله من تفسيرات وتأويلات في مطاطيتها المطلقة : الحق في التعبير عن الرأي ، حماية الحقوق ، عدم التأثير سلبا على السلم الاجتماعي ، المصلحة الوطنية ، الاخلاق ، احترام الرموز ، مراعاة اسلوب الحوار ، المعلومة السليمة ، خصوصية الافراد الخ ... او العبارات التي تشفي غليل المتلقي الذي يملك حدا ادنى من الوعي والالتزام من مثل حماية القيم والبنى الاسرية ومنع الاباحية وغيرها مما يجعلك تشعر بعد ان تقرأ النص بتمعن ان نصفه البراق قد استعمل نيران تغطية لتمرير نصفه القمعي ، كنيران القصف التي تستعملها الجيوش لتغطية الانسحابات ، او لنقل كقشرة الحوى التي تغطى بها الادوية المرة . كذلك العبارات التي لا تكاد تستثير رضاك اعلاميا ومواطنا حتى يستثير الالتفاف عليها وتقييدها بعبارة اخرى احساسك بانك كمن عبا الماء في دلو بلا قعر . وعلى رأس هذه:
– حرية الاعلام والتقيد بجدول زمني تضعه الجهة المختصة بالرقابة ، او حق مصادرة الترخيص والاجهزة والمعدات.
– حرية التعبير على ان تتم بوعي ومسؤولية وتلتزم المصالح العليا للدولة وللوطن العربي.
– او من العبارات المتناقضة التي يزخر بها النص من مثل حرية استقبال البث وحق عدة جهات بوقف البث ومنعه ، بل ومعاقبة من يتلقاه لا من يرسله فقط.
– تثبيت ولاية دولة المنشأ ، واعتبار ان الدولة التي يتواجد على ارضها مرافق بث هي دولة منشأ.
– انتشار الثقافة : اية ثقافة ؟ اهي ثقافة الاستهلاك التمييعية في بلاد غير منتجة ونصفها تحت خط الفقر ، واكثرها واقع تحت الاحتلال العسكري او الاقتصادي ؟ اهي الثقافة الغيبية التغريبية ؟ اوليست كلمة الثقافة كلمة عامة مثل كلمة لون او لغة او فكر؟
– ضمان حق المواطن في متابعة الاحداث خاصة الرياضية ( لماذا الرياضية خاصة ؟ ) ولا يقولن احد انها الرأفة بمن لا يتمكن من دفع ثمن التشفير.
– الامتناع عن التحريض على العنف والكراهية والتمييز ، والتشهير. ضد من ، وما هي معايير تحديد هذه المصطلحات ؟ لماذا لم يقل مثلا تحريم الشحن المذهبي والعرقي والطائفي. ولنلاحظ هنا ان هذا التعبير وتعبير النقطتين التاليتين يبدو بوضوح مترجما عن الانكليزية في استجابة لمفاهيم ومصطلحات سائدة في الغرب ضد اتجاهات معينة ولغايات سياسية معينة.
– التحريض على العنف وما يسمى الارهاب ، ولا يكفي هنا ان ترد عبارة"مع التمييز بين الارهاب والمقاومة"طالما انه ليست هناك معايير محلية ولا دولية لهذا التمييز وطالما انه لكل دولة حق فرض ما تراه من قوانين ولوائح على ارضها .
ولعله من المضحك هنا التغني بمبدأ السيادة في وقت يغرق فيه نصف العالم العربي في الاحتلالات ويتلقى نصفه الاخر التعليمات المباشرة من الاجنبي،
– قبول الاخر ، من هو هذا الاخر ؟ ( اهو المواطن الذي ينتمي الى طائفة او اتنية اخرى ، وهل يجوز في هذه الحال اطلاق صفة الاخر عليه ؟ ام انه الاخر الاجنبي ، وفي هذه الحال وفق اية معايير يجب القبول به ؟ معايير حوار الحضارات والتعرف عليها والتفاعل معها بشكل افضل ، ام معايير قبول المحتل والمتدخل والعدو؟
– تحريم تناول قادة الدول والرموز الوطنية والدينية ، حسنا وكيف يمكن ان يتم والحال هذه بحث قضايا الفساد والتجاوز والقمع؟
– تفعيل الحوار الثقافي ، حسنا هذا مطلب مؤكد ، ولكن اي حوار ومع من ؟ وماذا عن التسطيح والتتفيه والرداءة ؟ وماذا عن الحوار السياسي والاجتماعي والاقتصادي؟
– الزام هيئات البث بعلانية وشفافية المعلومات . الم يسمع كاتب الوثيقة بان من اهم الحقوق الديمقراطية للاعلامي هي حريته في عدم الكشف عن مصدر معلوماته ؟ غيض من فيض لا يستطيع مقال كهذا ان يستوفيه.
ولكنّ ثمة سؤالين لا بد وان يتضحا هنا : الاول عن المقصود الاساسي بهذا التوجه الجديد ؟ والثاني حول ما اذا كان تنظيم الاعلام امرا امرا مرفوضا كمبدأ عام؟ عن الاول نقول ان المستهدف ليس ابدا محطات الكباريهات والتجهيل ، لانه لو كان الامر هكذا لما احتاج الامر بالسعودية ومصر الى دعوة العرب كلهم لاجتماع .
فالمحطات المتهمة باللهو والاباحة تابعة تقريبا بكليتها للامبراطورية السعودية تمويلا ومسؤولين ، بما فيها المحطتان اللبنانيتان ، وما على الممول الا ان يأمر او يقطع التمويل حتى تستقيم الامور .
ولا هي البرامج التي تهدف الى الشحن المذهبي والطائفي ، لانها ايضا غير خارجة عن هذه الدائرة كثيرا . لكنها بلا شك البرامج التي تزعج السلطات العربية ، والسيد الاميركي ، والبرامج التي تدق جدران الخزان ، وتفضح المستور من المصائب.
اما تنظيم الاعلام ، فقد كنا نطالب به ، كي يقودنا الى المزيد من الحرية الحقيقية في الخوض في مشاكلنا المزمنة ، والى التقليل من ثقافة الاستهلاك و التتفيه والتشييء والكباريهات التي تقتحم كل البيوت . نقول مشاكلنا ، السياسية منها وقد هزتها بعض الفضائيات من مثل الجزيرة ، ولكن ايضا الاجتماعية كالامية التي تصل نسبتها في بعض دولنا الى ستين بالمئة ، والفساد وغياب الشفافية ، مما يشكل اساس مشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية والتنموية ، ونقص الحريات الحزبية والفكرية التي تؤدي الى تشكل الفرد - المواطن القادر على بناء الديمقراطية ، وغياب العدالة الاجتماعية في مجتمعات يصل فيها من هم دون خط الفقر الى 30 بالمئة ، وطريقة توزيع الميزانيات العربية (وهو الموضوع الذي لم يتجرأ احد على طرحه الا مرة واحدة في ندوة الجزيرة على هامش مؤتمر مجلس التعاون الخليجي في الدوحة قبل شهرين ، وقد كتبنا عنه مهللين في حينه) غير ان هذا التنظيم المطلوب ليس ذاك الذي يمر عبر المقص والسيف والعصاة ، ولا هو الذي يمنح وزير اعلام حق شطب محطة بجرة قلم كما لم يحدث في جمهوريات الموز.
انه تنظيم التخطيط ، وربط الاعلام بالتربية والثقافة ... وفي النهاية ، اي في حال التجاوز هناك القضاء ، على ان تؤمن اولا استقلاليته الكاملة وان لا يجوز ايضا باي حال تحويل الاعلاميين الى الجنائي منه . واخيرا هناك محكمة الجمهور فهل يظنن ان الجمهور مغيب ومتاخر عن سن الرشد ، بحيث لا يستغني عن الاوصياء من وزراء الاعلام ومن وراءهم من اجهزة؟