أشهر الأساطير وأولها مما وصلنا مكتملاً في تاريخ الإنسانية هي تلك التي صيغت على أرض الرافدين باستهلال أو عنوان: “الاينوما ايليش” وترجمتها بالعربية: “عندما في الأعالي”. هي قصة صراع وجودي تنتهي بانتصار الإله “مردوخ” على الآلهة “تيامات” وشطره جسدها إلى نصفين صانعاً منهما السماء والأرض. في أول تصور لعملية الخلق. لكن انشطار الجسد لن يؤدي في كل مرة إلى عملية خلق، وما يترجم منه بتقسيم العراق الحالي إلى ثلاثة وربما إلى ما لا ندري من جزيئات، لن يؤدي إذا حصل لا سمح الله والمقاومة الواعية إلا إلى الموت والتفتت ثم التحلل، ليس للعراق فقط وإنما للمنطقة كلها.
لذا فإن هذا الأمر أكثر من خطير، ومقاربته سواء من خلال تناول قرار الكونجرس الأخير، أو من خلال السعي الجاري على الأرض، هي مسألة بالغة الأهمية، مسألة لا يمكن ولوجها إلا بالاستناد إلى الأسس الفكرية الواضحة التي تنسف حجج الدعاة المبشرين، والمجرمين الذين يعملون على فرض الأمر الواقع. لذلك لا بد من القول، أن ينبري الزميل فيصل القاسم إلى طرح الموضوع في حلقة برنامجه لأسبوع ما قبل الأعياد، فذلك اختيار في صلب مكانه وتوقيته، ومبادرة إلى مناقشة قضية خطيرة ستظل حية لفترة طويلة غير أن مجرى الحلقة يحتمل بعض الملاحظات بالنسبة لحجم القضية المصيرية الخطيرة التي تناقش: فمن الجانب المؤيد للقرار، اختار منه الطرف الكردي، كان الخيار مبرراً لأن الأكراد هم الأكثر حماساً له، والأكثر صراحة في إعلانهم الرغبة في الانفصال، وتطبيقها على الأرض. لكنه كان من الأفضل أن يؤتى برجل ذي موقع سياسي، صاحب قرار ومسؤولية رسمية في منطقة كردستان.
أما من الجانب الآخر وقد اختار المناضل القومي الدكتور إبراهيم علوش، فقد كان من الأفضل أن يأتي بشخصية عراقية قومية ورافضة للتقسيم أو للفدرالية. ليس من باب الرؤية الإقليمية، ولكن لسببين: أولاً لأنه يتوجب إبراز العراقيين الحقيقيين في وطنيتهم وقوميتهم ومقاومتهم للاحتلال ولكل مشاريعه. وطالما أن الحديث يكثر عن المقاومة السياسية، أوليس الدفاع عن وحدة العراق أبرز واجبات ووجود هذه المقاومة؟ وثانياً لأن أهل مكة أدرى بشعابها، من حيث معرفة الشخصيات المخضرمة بتاريخ المسائل الانفصالية وتحديدا الجانب الكردي منها، وتاريخ العلاقات بين مختلف مكونات الشعب العراقي. اضافة لما يفترض في شخصية قومية أن تعرفه عن سياقات المنطقة والعالم من دون أن يكون في ذلك أي انتقاص من قدرات الدكتور علوش المشهود له في اكثر من مقارعة سابقة.
الملاحظة الثانية، تقع في الأساس الفكري للقضية، من حيث تبني مفهوم معين للقومية. ذاك أن عصر القوميات القائمة على العنصر، من عرق أو دين قد ولى منذ القرن التاسع عشر، وتحولت دعواه، بعد الحرب العالمية الثانية، إلى جريمة يعاقب عليها القانون في الدول التي لم يفتأ المحاور الكردي يصفها بالمتحضرة والديمقراطية والحديثة. في حين أن المفهوم المقبول حداثوياً وديمقراطياً وحضارياً، هو مفهوم ما اصطلح عليه أوروبياً ب “القومية المركبة” أي ذلك النسيج الوطني الذي تذوب فيه الأعراق والأديان والمعتقدات على اختلافها وتعددها، في إطار الدولة الحديثة التي تقوم على مفهوم المواطنة الذي يساوي بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات لمجرد كونهم مواطنين فحسب. وبالتالي يعتبر كل دعوى انفصالية على اساس عرقي أو ديني عملاً عنصرياً يساوي الجريمة. مفهوم تكرس في اوروبا منذ الثورة الفرنسية وظلت الردات عليه تبرز من وقت لآخر إلى أن كانت النازية آخر وأعنف تجلياته، وبالقضاء عليها في اواسط القرن الماضي اصبحت تهمة العرقية ابشع تهمة يمكن توجيهها لإنسان هناك. فماذا مثلاً لو انبرت كل إثنية وكل طائفة في الولايات المتحدة تطالب بحق تقرير المصير كما كان يطالب المحاور الشاب في “الاتجاه المعاكس”؟ ماذا لو طالب هؤلاء بإعادة خلط الولايات الخمسين وإعادة تشكيلها على هذه الأسس؟ ماذا لو طالب “الغولوا” بالإنفصال عن الفرنك، والكاثوليك عن البروتستانت، ومقاطعة بروتون ومقاطعة ايكوسيا ومنطقة الجنوب عن منطقة الشمال والوسط في فرنسا؟
هكذا لا يمكن تبني المفهوم العنصري للقومية وبالتالي مقارعة الانفصاليين في هذا الجزء أو الآخر من بلادنا.
الملاحظة الثالثة تتعلق بالتمييز بين الدولة الديمقراطية ودولة القانون وعلاقة ذلك بالإصلاح الذي كان ولا يزال مطلوباً للعراق ولسائر الدول العربية. لقد كان العراق دولة حديثة بمعنى الكيان السياسي الدستوري المؤسساتي لمجتمع تعددي لا يميز قانوناً بين مواطنيه، لكنه لم يكن دولة ديمقراطية من حيث استئثار حزب واحد بالسلطة، وتعدي هذه السلطة على حقوق الإنسان وحقوق المواطن وحرياتهما.
الملاحظة الرابعة تتعلق بتاريخ العلاقة السياسية المعقدة بين احزاب وقوى كردستان العراق والحكومة المركزية في بغداد. فقد شارك الأكراد في الحكم ايام الملكية وكان نوري السعيد كردياً على سبيل المثال، ومنذ انتهاء النظام الملكي وقيام الأنظمة الثورية المتعاقبة حتى فترة صدام حسين اكتست العلاقة الكردية بالحكومة المركزية طابع الانتهازية المتقلبة، دعوة الى الانفصال وتآمر على الدولة في حال الاسترخاء ولجوء إليها طلباً للحماية في حال الاقتتال الداخلي أو الخطر الحدودي: ينشق جلال الطالباني وجماعته عن الملا مصطفى البرزاني في بداية الستينات، ويجد نفسه بين الملا والإيرانيين فيلتحق وحزبه بصدام حسين لمدة عشرين سنة ليحميه. تحصل اتفاقية مارس/ آذار بين البرزاني والحكومة بغداد فيرسل طالباني إلى القاهرة ومن هناك يتحول إلى الاتصال بالمعارضة العراقية في سوريا. تندلع المواجهات مراراً بين جماعتي الطالباني والبرزاني، حتى بعد حرب 1991 فيلجأ مسعود البرزاني إلى صدام حسين طلباً للحماية. يواجه الكرد التهديد الإيراني فيلجأون إلى الحكومة، تهاجمهم تركيا فيفعلون الشيء نفسه، حتى الهجوم الأخير قبل أسبوع حين سمعنا أحد مسؤوليهم يصيح من على شاشة الجزيرة نفسها: “نحن جزء من دولة العراق، العدوان يستهدف العراق ككل لأننا جزء من العراق” بل يمضون حد الاستنجاد بالاحتلال: “هذا تعرض للحدود ولسلطة الاحتلال”. وبهذا السلوك الميركانتيلي نفهم لماذا يطالبون بالفدرالية لا بالانفصال، مما يتضمن إبقاء حماية الحدود في يد الدولة المركزية، من دون أن يمنع ذلك حكومة وأحزاب الإقليم من إقامة جميع أنواع العلاقات الخارجية الانتهازية، ومن التصرف بالثروات وممارسة التطهير العرقي.
الملاحظة الخامسة، تتعلق ببعض النقاط التفصيلية، من مثل الحديث عن الأنفال وعن إزالة العلم العراقي من كردستان ومن شطب اللغة العربية، وعن تكرار تهمة الفاشية والقومجية، وعن التحجج بأن التقسيم أمر واقع قائم، وعن التعايش الفدرالي... إلخ.
إن منطق الرد على هذا كله قائم بذاته وعلى أرض الواقع أيضاً: فهل نسي العراقيون منظر الأكراد وهم يقبلون يد صدام حسين عام ،1991 وبعد الأنفال؟ وهل سمح للمحكمة أو حتى للإعلام بمناقشة وتعميم المعلومات التوثيقية حول حلبجا؟ أما العلم، فمن قال إنه علم صدام حسين؟ وهل بدأت الدولة العراقية بصدام حسين (وهذا ما يريد الاحتلال الإيحاء به عالمياً)؟ لقد وجد العلم منذ وجدت الدولة وإجريت عليه تعديلات بحسب التطورات السياسية والإدارية من مثل إضافة النجوم عندما زاد عدد المحافظات، وإضافة عبارة الله أكبر مع أزمة التسعين، وتغيير خط عبارة “الله أكبر” إلى الكوفي مع قيام الحكم الجديد، بعد ان فشلت محاولة تغييره إلى ما يشبه علم “إسرائيل”. لكنه في كل الحالات ظل علم العراق الواحد الموحد، وهو العلم الذي يجلس امامه جلال الطالباني رئيساً، ويرفعه أمامه هوشيار زيباري في مؤتمرات وزراء الخارجية، فما معنى ألا يرفع في كردستان؟ وكيف يقال إنه علم صدام؟ ثم، عندما يستنجد الأكراد بالحكومة المركزية وغداً بالجيش المركزي ليردا عنهم تركيا، أو إيران، فباسم ماذا ستتدخل بغداد؟ وأي علم سيرفعه هذا الجيش؟ كذلك اللغة العربية، إنها لغة العراق ولغة القرآن ولغة صلاح الدين الأيوبي ونور الدين الشهيد، لا بأس من تجاورها مع الكردية، ومن ثم الإنجليزية كلغة أجنبية عالمية، ولكن شطبها غير جائز. أما تهمة الفاشية والقومجية فهي تعبير من باب قلة الأدب لأنه إهانة لقناعة ملايين البشر من القوميين، وهذا ما لا يجوز إطلاقاً لمن يدعي الديمقراطية واحترام حرية الرأي، أن يفعله. وإلا فلماذا كان يعيب على الآخرين إلغاءه طالما أنه بدوره يلغي الآخرين؟ أما التحجج بكون التقسيم قد أضحى أمراً واقعاً، فالاحتلال أيضاً أمر واقع، والفساد أيضاً أمر واقع، والمرض أمر واقع، والأمية أمر واقع، فهل يريدنا الأخ ألا نحاربها؟