في ظل وزارة اتصالاتنا السورية, لا موجب لأن نشك لحظة واحدة في أننا نعيش واقعاً رقمياً نحسد عليه, حسبنا أنه يذكرنا مع إرسال كل «إيميل» بالقول المأثور إذا أردت أن «تعرف نعمة الله عليك أغمض عينيك», بمعنى إذا أردت أن تعرف أفضال وزير الاتصالات السوري عليك ادخل إلى الانترنت وقت الذروة, وتخيل كيف كانت حياتك قبل الانترنت, وكيف أصبحت أكثر بعد أن أغدقت عليك وزارة الاتصالات من فائض هذه الخدمة الرائعة, حتى ليصح عليها تسمية: وزارة الانقطاعات والانفصالات والمحجوبات والممنوعات... إلخ, ماعدا وزارة «الاتصالات».
ومن باب الحرص على الرشاقة العامة العقلية تقوم الوزارة مشكورة بتعقيم كامل للشبكة العنكبوتية, فلا تسمح إلا بمواقع «دايت», لا تغني ولا تسمن... وتبذل كل جهدها كي لا تدمن جماهيرنا الكادحة استخدام الانترنت, فنراها لا توفر وسيلة لبث الملل والسأم في نفوس المستخدمين لتبقى علاقتهم مع زر «الكونكت», حب من طرف واحد: «أكلمه بحرارة يرد بالقطارة»؛ والتقطيربواسطة التنقيط, ليس فقط في وصل الخط, بل بإتاحة الأشكال المتنوعة للاتصال, فما زلنا كلما سافرنا إلى بلد مجاور وتمتعنا بخدمة الـ«وايرلس» المبذولة في كل مكان من مطارات وفنادق وحتى مقاهٍ شعبية, شعرنا وكأننا خارجون من سبات أهل الكهف, لأن أفضل الفنادق لدينا لا توفرها, وإن وفرتها فحصراً في دمشق وحلب, وثمنها ليس بخساً أبداً, وما علينا سوى القبول بهذا الواقع الكهفوي؛ مجبرٌ أخاك لا بطل, بل ونقبّل أيدينا وجهاً وقفا, داعين العناية السماوية ألا يتراجع تهالك شبكتنا العنكبوتية الوطنية أكثر وأكثر, فنعود إلى عصر الحمام الزاجل والبلاغ والتبليغ بإشعال النار على الروابي وقمم الجبال, وكأن ثورة الاتصالات لم تحدث في العالم ولا كانت... وإنما هي مجرد أضغاث أحلام, أو تخاريف شعراء, وحكايات عفاريت وجان.
ولأن هذا هو الواقع, نحن راضون به درءاً للأسوأ, علينا ألا نستنكر ولا نندهش من حجب المواقع الواحد تلو الآخر ولا من تردي الخدمة السيئة أصلاً, وان نعكف على التحديق في نصف الكأس الممتلئ, كما فعلت الصديقة العزيزة مارية شكري التي تعمل مدرسة في إحدى مدارسنا الخاصة, حين طلبت مني أن أسجل موقفها في الصحافة بأنها رغم رفضها لسياسة حجب المواقع إلا أنها تؤيد حجب موقع الـFace book, وبرأيها أن هذه هي المرة الأولى التي ترى في الحجب فائدة.
ومن وجهة نظر الصديقة التي احترمها واقدرها كثيراً, أن قرار الحجب لم يتخذ بهدف حماية الشباب والمراهقين المستخدمين للموقع, لكنه صب في صالحهم, وتقول: «من خلال مشاهدتي للطلاب المستخدمين للموقع في الأشهر الأخيرة وتجوالي في صفحات الـ 29000 مشترك من سوريا, رأيت العجب ولاحظت أن الوقت الذي يصرفه طلاب المدارس والشباب على الـFace book لا يقل عن 4 ساعات في الحد الأدنى, عدا عن أن رقابة الأهل مفقودة في المنزل, وهناك من يُعرّف عن نفسه بصورة خادشة للحياء, وفوجئت بمحتوى صفحات طلابي وأصدقائهم. أنا كمدرسة وكأم أشعر بالارتياح لقرار كهذا, قد يكون هناك ألف طريقة للتعويض عن هذا الموقع, إلا أنني لم أستطع أن أمنع نفسي من الشعور بالراحة لحجبه».
قد يكون هذا رأي قلة ممن يعرفون أو يستخدمون الموقع, وقد يكون هذا مبرراً لأم ومربية تتمتع بحس عال من المسؤولية, تجاه حماية الأخلاق العامة, لكن قبل تأييد أو استنكار قرار الحجب, لابد من النظر إلى ما تكشفه مثل هذه المواقع من نهم وجوع شديد لدى الأجيال الطالعة للتحرر من سطوة الرياء الاجتماعي, ونشر غسيل دواخلهم الإنسانية وهواجسهم على الملأ, والتوق إلى أن يكونوا هم كما هم على حقيقتهم, وقد يحمل ذلك خطورة كبيرة, على مجتمع يتذرع بالفضيلة دون أن يمارسها, وهو بالتأكيد ليس أخطر من الآثار السلبية للكبت والضغط النفسي الذي نخضع له, وليس في هذا دعوة إلى التخلي عن التهذيب, ومراعاة الأخلاق العامة, لكن أي معنى للتهذيب إذا لم يكن أصيلاً في النفس, أو على قناعة به, وليس مجرد التزام بخط الكذب العام في مجتمعات ترفض رفع الوصاية على الشباب, وتفرض أثماناً باهظة على التجارب غير المحسوبة أو الفاشلة, فلا ترحم ولا تغفر ولا تنسى, ويكفي هنا التذكير بواقعة(فتاة القطيف)
التي أدانها القضاء السعودي لتعرضها للاغتصاب وحكم عليها بالجلد والسجن!! فما هو معيار الأخلاق, هل السكوت على الظلم تجنباً للفضيحة, أم مكاشفة المجتمع بكل مؤسساته وفضحه؟
وللمفارقة, أنه رغم ما شغلته هذه القضية في الرأي العام السعودي والعربي, لم يعرف أحد الاسم الحقيقي لهذه السيدة, ولم تظهر للدفاع عن نفسها في أي من وسائل الإعلام, فيما ظهر محاميها وزوجها لتبرئتها من جناية تعرضها €للاغتصاب€!!
من نافل القول إن الانترنت بما أتاحته من فرص ومجالات, اسهمت في تعويم كثير من العقد الاجتماعية والهفوات الفردية, وأبرزتها على نحو فج ومفجع, نكاد لا نتقبله بل ننكره بالقول إن مجتمعنا ليس كذلك, وإذا كان على هذا الشكل, فيجب ألا يرفع عنه برقع الحياء, رغم انتفاء الحياء وتستره تحت طبقات الكبت والانغلاق.
إن الذين يصبون على الشبكة ما في دواخلهم هم عينة من صميم المجتمع, وليسوا من كواكب أخرى, وهذا ما يجب أن نقره, ومن ثم نقرأه بإمعان لنعيد النظر بحقيقة علاقتنا بالقيم, التي نتمسك بها سطحياً وزوراً وبهتاناً, ولو لم يحجب موقع الـFace book وغيره من مواقع التعارف والتواصل, لقلنا إنها فسحة كي نتعرف الى وجهنا المتواري وراء مساحيق التجميل, قبل أن تبهت موضة هذه المواقع كما سبق وبهت غيرها.
كان من الممكن أن تكون فرصة للبحث في تبدل القيم الاجتماعية واختبارها, وفرصة لنستفيد من هذه الانكشافات كما يفعل غيرنا في أنحاء العالم, لكن بما أننا محظوظون بوزارة الانقطاعات والمحجوبات الحميدة, فالباب الذي ربما تأتي منه الريح مسدود... مسدود. مسدود يا ولدي... يرجى المحاولة لاحقاً.