كتبتُ في مقال سابق عن €فوبيا التغيير€ وأعطيت مثالا لعدة وزارات ساء حالها بعد سلسلة تغييرات منها وزارة الثقافة, وعلقت بأن المشاريع البديلة المطروحة في الهيئة العامة للكتاب لا يبدو أنها ستعوض الفراغ, بقدر ما سوف تشكل تراجعاً عما أنجز, أضيف إليه اخيرا ارتباك عمل مديرية التأليف والترجمة. ولقد جاءني رد غير مباشر من وزارة الثقافة وهو أن السيد الوزير وجه بأن يرسل إلي 160 كتاباً هي إصدارات الهيئة العامة للكتاب خلال العام 2007.
ضحكت على أساس أن الأمر مجرد دعابة, لكن محدثي من وزارة الثقافة الأستاذ نجم الدين السمان, أكد لي أن الأمر جدي, وقد بُدئ بحزم الكتب, وسألني إذا كان بيتي يتسع لها؟ للأمانة أفرحني هذا الرد العملي وتمنيت عليهم إرسالها بأسرع وقت. مضى على «رد» أو «وعد» وزارة الثقافة حوالى أسبوعين والكتب التي انتظرت وصولها لم تصل كي يضع توما الشكاك الذي بداخلي يده في عمق الجرح, ويقتنع أنه تجنى على الوزارة والهيئة العامة للكتاب, وان المغرضين صلبوهما وظلموهما. تمنيت ذلك حقا كي أكتب معتذرة عما فعلت, لكن التحقيق الذي نشرته صحيفة تشرين بتاريخ 5€1€2008, حول الهيئة العامة للكتاب وما جاء فيه من اتهامات ومهاترات بين المدير العام للهيئة وطاقم العمل, وما تكشف عنه من واقع يندى له جبين الثقافة خجلاً, دفعني للتمسك بموقفي السابق, سواء وصلت قافلة الوزارة المحملة بالـ 160 كتاباً أم لم تصل.
فالبرهان على تردي الحال في وزارة الثقافة ظهر على نحو مؤسف ومرعب وغير لائق, ليس فقط من جانب أن العناوين الـ 150 وليس كما قيل 160 كتاباً €هي تراكم من 3 5 سنوات ماضية في المطبعة€, وليست نتاج الهيئة التي بدأت بالعمل منذ عام ونصف, ولم تكن لترى النور لولا تدخل الوزير بالتوقيع على تسهيل معاملات صدورها.
ليس هذا فقط, إنما أولاً: مستوى الاتهامات والتهاتر المتبادل والتمترس في خندقين, فريق مديرية التأليف والترجمة من جانب, وفريق المدير العام ومستشاريه من جانب آخر. اعتقد أن ما حصل من تخندق حربجي €بكل معنى الكلمة€, لا يلقي اللوم على فريق العاملين بقدر ما يلقى على المدير العام الذي سمح بوصول القطيعة والقصف المتبادل الى حدود عشوائية, إذ كان تعامله مع طاقم التأليف والترجمة كعدو يرد الإساءة بأسوأ منها, ولا يتردد في قدح وذم رواية لروائي سوري بالاسم الصريح واعتباره عملاً «مشيناً» لا يليق أن ينشر «بعهد» الوزير الحالي!! مع أن موافقة نشره صدرت خلال فترة الوزير السابق, علما أن ابسط أدبيات النشر عدم تسفيه الجهة الناشرة بالأعمال المرفوضة أيا كانت الأسباب!!
هكذا وبدل أن يكون شخص المدير العام العقل الجامع المستوعب لكافة وجهات النظر المتضاربة, المترفع عن الخصومات الشخصية والصدر الرحب المتقبل لكل الانتقادات العادلة والمجحفة, كصفات لا بد من توافرها في الشخص القيادي كي يتمكن من إدارة أفراد فريقه حتى لو كانوا من المشاغبين العتاة, فما بالنا إذا كان الفريق نخبة من المثقفين لديهم خبرة في التقييم تتراوح بين 5 و25 سنة شئنا أم أبينا, يحتاجون لتعامل خاص يفيهم حقهم من التقدير!!
أما كان الأولى بالمدير العام احتواء آرائهم ومقترحاتهم وحتى اعتراضاتهم لوضع كل واحد منهم أمام مسؤولياته, بدل أن يتعقبهم ويتعقبونه في لعبة قيل وقال لا طائل منها سوى تضييع الوقت وتبديد الطاقات وتشويه السمعة, وهو ما لا تستحقه الثقافة السورية التي صدَّرت للعالم العربي أهم المبدعين.
ثانياً: كشف تحقيق €تشرين€ الخلاف على خطة نشر اقترحها المدير العام الذي لم يوضح رؤيته التي بنى عليها الخطة بشكل مقنع, كما ان الفريق المهاجم لم يناقش فكرة قيام الهيئة بفتح خط لإنتاج كتب رابحة, من خلال إصدار عناوين استهلاكية تعنى بالصحة كتلك التي تصدرها دور النشر التجارية, وعما إذا كانت هيئة حكومية معنية بالمنافسة التجارية. فمكث الهجوم والدفاع ضمن الخطوط العريضة للخطة, والتي إن دلت على شيء, فتدل على غياب الرؤية وانتشار الفوضى في وضع استراتيجية للنشر التي ينطبق عليها نكتة «محشش فتح محل أسماه بقالية الأقمشة الكهربائية لحلاقة الأحذية الغذائية».
كنا نتمنى من المهاجمين بدل أن يشخصنوا المعركة والرد على اتهامات المدير العام, كل كلمة بعشرة, أن يبادروا إلى تفنيد الطريقة التي تدار بها هكذا مؤسسة وليدة وفق ما ينص عليه النظام الداخلي لها إن وجد, فمثلاً كيف يوقع الوزير بدل المدير العام لهيئة مستقلة؟ هل هي تابعة للوزارة؟ لا يبدو هذا واضحاً... ثم كيف يستقيل موظف مهم منذ أسابيع ويكلف آخر مكانه, ثم يأتي المدير العام ويصرح للصحافة بأنه لا يدري أن فلاناً من موظفيه قد استقال, وأنه قدم استقالته للوزارة!! فمن يعين ومن يقيل: الوزير أم المدير العام؟ كيف تناقش خطة النشر مع جهة أخرى €الأمانة العامة للعاصمة الثقافية€ قبل مناقشتها في مجلس الإدارة؟ ما العلاقة الإدارية بين مديرية التأليف والترجمة وبين الهيئة العامة للكتاب؟ ولماذا حين كانت مديرية التأليف والترجمة في وزارة الثقافة بعدد موظفين لا يتجاوز أصابع اليدين ومطبعة قديمة تنتج أضعاف ما تنتجه الهيئة العامة للكتاب بمجموع موظفيها ومستشاريها الجهابذة وجيش من القراء الفحول مع مطبعة حديثة؟ حتى ليصح فيها قول الشاعر:
ولكن البلاد إذا اقشعرت
وصوّح نبتها رعي الهشيم
هذه النقاط إذا لم توضح فإن تغيير الأشخاص لن يعني شيئا, ولن يرفع سويتها وضع الشخص المناسب في المكان المناسب؛ وهذا بالمعنى السوري للعبارة المجيء بشلة «من دهنه سقيلو» تكون منسجمة ومتوافقة تطرد أو تطفش من تريد وتقرب من تريد... أي «تي تي... تي تي مثلما رحتي مثلما جيتي» في واقع ثقافي محكوم بعداوة كار تاريخية. أخيراً, وليس آخراً, لا يستقيم الوضع في أي مؤسسة إلا بنظام داخلي يحدد المسؤوليات بوضوح لا تداخل بينها, فالخلل في البنية الإدارية والتنظيمية يفتح هامشاً بلا حدود ليس للفوضى فحسب, وإنما للشرشحة أيضاً, على نمط ما كشف عنه تحقيق «تشرين». وإذا كان ثمة ما يقال حيال هذه القطيعة التي إن استمرت واستحكمت وتفاقمت بين المدير العام للهيئة وكادر العاملين, فلا بد من أن نستعير آخر ما قاله سعد زغلول لزوجته وهو على فراش الموت: «غطيني... ما فيش فايدة يا صفية».