الكاتب : نجيب نصير
يسارع الكثيرون (اليومين دول) الى الاحتفال بسقوط الخطاب التنويري أو وفاته نتيجة العطب التأسيسي فيه، تجعل منه دوغما يتوسلها المثقفون للحصول على حريات فردية صغيرة (الضرورية للنمط الحياتي للمثقف) تجعل من التنويريين أو المثقفين (وهنا ضبابية في الإشارة أو التحديد) طائفة صغيرة تعاني من الاضطهاد لأنها لم تحصل على هذه الحريات الصغيرة!!
ربما لم ينتبه هؤلاء المسرعون لنعي التنوير إلى أن أدواتهم الفكرية لا بل تفكيرهم المحض هو بأدوات تنويرية وتفكير تنويري وناتجة عن التنوير على الرغم من إصرارهم على عدم التفاعل أو الجدل على الطريقة التنويرية كمسار منطقي ، بل قسر هذه الأدوات وهذا التفكير على التقولب في نتائج جاهزة "مضمونة" سلفا لا ترقى الى العالم المعاصر بصلة، على الرغم من كل التجارب الكارثية التي تم بها الالتفاف على التنوير، عبر اعتماد شعاراته وتجويفها بطريقة عنيفة وتبسيطية تجعل من العددية مساوية للصواب وفي كثير من الأحيان للذكاء وللعبقرية.
ومع الإجماع الفكري والثقافي والتقني والعلمي والإعلامي والدراسي وكل وسائل توصيل المعلومة ونقاشها والتي تقر أن العلمانية لا تعني لا الكفر ولا محاربة الأديان ولا الحريات الدينية، لما يزل هؤلاء المسرعون مصرين على ربط التنوير (وأي شيء آخر لا يعجبهم) بالعلمانية دون بذل أي جهد معرفي أو معلوماتي للتعرف عليها أو إعلانها، بل يصرون على أنها كفر كبديهية، مبنية على تصريحات تبسيطية لهذا المنصب (الشفاهي على الأغلب) الثقافي أو ذاك حيث لزاما عليهم تصغير المفاهيم المعاصرة وتقزيمها الى ما يتناسب مع التبسيط المخل لخطاب ليس له مكان تطبيقي في العقلانية وشرعتها.
المشكلة ليست في التسرع في إعلان الوفاة، ولا في الشماتة، ولا حتى في الصحة الإحصائية من عدمها، ولكن المشكلة في إسقاط عبثي لخطاب لم يتمكن أحد على وجه البسيطة من الاستغناء عنه، ولا يمكن لأية خطة طريق نهضوية الاستغناء عن مقاربته بغض النظر إذا كان هذا التنوير علمانيا أم لا، فقضايا الاقتصاد والزراعة والصناعة والأبحاث لم تعد قضايا داخلية بسيطة وشفهية وعددية يبحث فيها التنويريين (او المثقفون أو النخبة أو حتى العلمانيون) عن حريات فردية صغيرة تناسب أمزجتهم حيث يمكن الاستغناء عن هذه الحريات لمصلحة مزاج العدد الأكبر ، بل هي مسائل نوعية خاضعة تماما لتدبير العقل العقلاني المنور، ولقد شاهدنا المثال السوداني الذي يمتلك 45 مليون بقرة حلابة ويستورد الجبن من الدنمرك التي تمتلك 950 الف بقرة، حيث يمكن وصف حتى الأبقار بدرجة تنويرها من ناحية كفاءتها في الوجود .
المضحك المبكي في هكذا كلام هو استخدامه لحقه في أداء رأيه من أجل القضاء على آراء الآخرين وتسخيفها، فالنخب (التنويرية ـ المثقفة ـ العلمانية المموهة) فشلت في إيصال خطابها للجماهير ، لسبب بسيط أنه خطاب خاطئ وغير أصيل ولم ينتج عن (نخب!!) قادرة على تبسيط الموضوع وتحديده في أطر قابلة للاستهلاك العددي، أما اليوم ومع سقوط التنوير نرى الشباب المغمور وهو يحاول التعبير عن نفسه عبر محاولة صياغة لغته التي تتوسل عشرات وسائل الاتصال الاجتماعي الحديث بمعزل عن التنوير أو الثقافة، حيث يبدو الفصام في أعتا صوره بين الفكر ووسيلة إيصاله ، ما سوف يؤدي الى مآزق في الثقافة الاجتماعية تجعل من الندم على إضاعة فرص التنوير الفعل الوحيد الذي يستطيع المبشرون بوفاة التنوير القيام به .