لكن "العبوات الناسفة" لن تكون بالضرورة على سياق "البارود" والمواد الشديدة الانفجار، فالتقارير الإعلامية تنسف أيضا الكلمات وتمحو المساحات التي تآلفنا معها
الحدث مختلف عما يمكن أن نلمسه واقعيا، و "جمعة العبوات الناسفة" لم تكن "دفاعا عن النفس"، ولا إعلانا للجهاد على تقارب التقسيمات التي ترسم زمننا في نهاية الأسبوع، فما يتم نسفه هو تفكيرنا أو خطابنا أو حتى قدرتنا على التعامل مع الآخر، ففي كل لحظة تلمع فيها السماء ثم يظهر الصوت مدويا يسقط جزء من ذاكرتنا، وتنهار معه قدرة البحث والتفكير ورسم الرؤية لمحيطنا الذي تآلفنا معه.
لكن "العبوات الناسفة" لن تكون بالضرورة على سياق "البارود" والمواد الشديدة الانفجار، فالتقارير الإعلامية تنسف أيضا الكلمات وتمحو المساحات التي تآلفنا معها، فالحديث عن مسلحين يحمون مناطق معينة، هي صورة تريد القول أن ما قبل انتشارهم كان القتل يسود فهل صحيحا أن البنادق المجهولة الهوية قادرة على حمايتنا في الأرياف قبل المدن، وهل مناطق مثل سقبا وكفر بطنا وحرستا ودوما كانت قبل آذار الماضي واقعة تحت التنكيل والتعذيب والفوضى والعبث حتى تحتاج إلى "ميليشيا" محلية؟
السؤال برسم التقارير والكلام المعسول عن "الحماية" أو ربما افتراض أن من يحملون السلاح اليوم هم من جنس الملائكة، وأن الدرس الليبي في مسألة الميليشيا هو مجرد دعايات وحملات مغرضة، فالتقارير المكتوبة على شاكلة "العبوات الناسفة" تفجر بدورها جغرافينا وتجعلنا مذهولين من قدرة الاضطراب على خلق أشخاصه" و "مريديه".
في منطقة القاعة في حي الميدان بدمشق سقط طفل بإحدى العبوات، وعادت بي الذاكرة لهذه المنطقة التي شكلت جزء من ذاكرتي وطفولتي، وتكتمت على تلك "الوداعة" التي كان عليها هذا الحي في قدرته على الانسجام مع تكوينه، وفي عراقته المملوكية، وحتى في حمله لزخم خاص مرتبط بتاريخ سورية السياسي، لكن العبوة الناسفة ومشاهدة الدم جعلتني من جديد أفهم "العبوات الناسفة" كتاريخ يتم رسمه اليوم....
الميدان التي حملت معها في الحدث الأخير تحولا عنيفا هي في النهاية ليست مجرد رأي يمكن أن يصور في تقرير إخباري، فهناك غرض أساسي من إشعال هذه المنطقة على الطريقة التي ظهرت فيها "الاحتجاجات"، فالمسألة ليست رأيا من النظام بل محاولة "ترميز" للحدث عبر منطقة الميدان، وتشكيل لحالة معينة لإعطاء صبغة "الأحياء" و "الأزقة" و "العائلات" على مدينة تضم كتلة بشرية كان من المفروض أن تنصهر بالمصالح العامة التي تفرضها المدن الكبرى.
كل الاضطرابات كان لها دلائل تكسير الذاكرة وتكسير المجتمع، فلماذا الإصرار على منح هوية ضيقة لأي تحرك؟ ولماذا البحث عن مفاصل تفرقة داخل الحدث بدلا من الجامع العام رغم أن الشعارات عامة: حرية وسلمية وغيرها من الكلمات....
اكتشف بعد أشهر من الحدث في سورية أن الأسئلة التي طرحتها الاحتجاجات، أو "الثورة" حسب تعبير البعض كان أكثر بكثير مما كنا نملكه أو نحاول الإجابة عليه، فهي "ثورة الأسئلة"، وليست عبوات ناسفة تؤرقنا كلما فكرنا بأطفالنا الذين يجوبون الشوارع، ونعرف مسبقا أن ما يصنعه الاضطراب سواء عبر التقارير أو الانفجارات لن يستطيع الإجابة عن كل الأسئلة التي فتحت، فهو يريد فقط تأكيد وجوده، أما نحن فالتحديات تعيد خلقنا من جديد.