لقد احتلت الأحداث المتلاحقة خلال السنة, أو السنة والنصف الماضية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط, المكانة الأولى بين القضايا السياسية على جدول الأعمال, على المستوى العالمي. وقد وصفت تلك الأحداث في كثير من الأحيان, بأنها ستبقى الحقبة الأبرز في الحياة الدولية للقرن الحادي والعشرين الفتي.
لقد نبه خبراء, ومنذ زمن طويل, إلى هشاشة أنظمة الاستبداد في البلدان العربية, واحتمال نشوب مواجهات ذات طابع اجتماعي وسياسي.
كان من الصعب التنبؤ بحجم وسرعة موجة التغيير التي اجتاحت المنطقة. وكنتيجة طبيعية للأزمة التي أصبحت ماثلة للعيان في الاقتصاد العالمي, فقد أوضحت الأحداث أن العملية التي أدت إلى انبثاق معالم نظام دولي جديد, قد دخلت في مرحلة من الاضطراب.
وبالنظر لبروز حركات اجتماعية هامة في بلدان المنطقة, فقد غدا أمرا ملحا بالنسبة للاعبين الخارجيين, ولمجموع الأسرة الدولية, معرفة السياسات التي سيتم اتباعها. وبناء على ذلك فقد عقدت العديد من الدول, والمنظمات الدولية, الكثير من جلسات النقاش على مستوى الخبراء, لدراسة هذه المسألة, واتخذت اجراءات ملموسة, نجم عنها مقاربتين رئيستين للمسألة:
إما تقديم العون للشعوب العربية كي تحدد مستقبلها بنفسها, أو محاولة تشكيل واقع سياسي جديد, يتوافق مع رغباتنا, مستفيدين من اضعاف هياكل بنى الدولة التي أثبتت جمودها منذ وقت طويل. غير أن الأوضاع تتطور بسرعة, مما يفرض على من يلعبون دورا متقدما في القضايا الاقليمية, تعزيز جهودهم, بدل تشتيتها في اتجاهات متباينة, كما تفعل الشخصيات في قصص ايفان كريلوف الخرافية.
اسمحوا لي أن أوجز الأدلة التي أقدمها تباعا, بخصوص تطور الأوضاع في الشرق الأوسط.
بداية, إن روسيا, وبالتشارك مع غالبية بلدان العالم, تحفز تطلعات الشعوب العربية لحياة أفضل, تسودها الديمقراطية, ويعم فيها الرخاء. وهي على أتم استعداد لمساندة هذه الجهود. لهذا السبب رحبنا بمبادرة الشراكة في قمة الثماني الكبار التي عقدت في "دوفيل" بفرنسا, وأعلنا بشكل صارم معارضتنا اللجوء إلى العنف في اطار الاضطرابات الجارية الآن في البلدان العربية, وبشكل خاص ضد المدنيين. إننا ندرك جيدا أن التحولات الاجتماعية مسار معقد, وطويل عموما, ونادرا ما يحصل بشكل سلس.
ومن المرجح أن تعرف روسيا أكثر من غيرها, الثمن الواجب على الثورات دفعه. لكننا ندرك تماما أن التغيرات الثورية, غالبا ما تأتي متزامنة مع انتكاسات اجتماعية واقتصادية, وخسائر في الأرواح, والكثير من الآلام. لهذا السبب تحديدا, دافعنا عن رؤية تطورية وسلمية, ترمي إلى تنفيذ سلسلة تغييرات طال انتظارها في الشرق الأوسط, وشمال أفريقيا.
وكما يقال: ما هو الرد الواجب القيام به عندما يأخذ استعراض القوة بين السلطة والمعارضة, شكل مواجهات مسلحة وعنيفة؟
الجواب بديهي: يجب على اللاعبين الخارجيين أن يوظفوا كل امكاناتهم, من أجل, وقف نزيف الدماء, من جهة, ودعم حل توافقي, تشارك فيه كل أطراف النزاع, من جهة ثانية.
عندما دعمنا قرار مجلس الأمن ذي الرقم 1970, ولم نبد اعتراضا على القرار رقم 1973, حول ليبيا, كنا نظن أن هذه القرارات سوف تؤدي إلى تقييد الاستخدام المفرط للقوة, وترسي دعائم تسوية سياسية للنزاع القائم.
لكن للأسف, فقد أدت الاجراءات المتبعة من قبل بعض البلدان المنضوية في عضوية حلف شمال الأطلسي, إلى انتهاكات فظيعة لهذه القرارات, وإلى دعم طرف دون آخر في حرب أهلية, كان الهدف منها الاطاحة بنظام الحكم القائم, وبطريقهم أطاحوا أيضا بسلطة مجلس الأمن.
وفي ظل الظروف الراهنة, التي أصبحت فيها العلاقات الدولية في غاية التعقيد, بات واضحا أن حل النزاعات عبر اللجوء إلى القوة, لم يعد يحظى بأي فرصة نجاح. الأمثلة على ذلك عديدة. يكفي أن نذكر بالوضع الشائك في العراق, وأزمة أفغانستان, التي لم يظهر أي حل لها حتى الآن.
من ناحية أخرى, هناك عوامل كثيرة تشير إلى أن الأمور في ليبيا, بعد الاطاحة بمعمر القذافي, ليست في أحسن أحوالها. بل على العكس. فقد امتدت حالة عدم الاستقرار إلى الصحراء الكبرى, ومنطقة الساحل, وأدت إلى نشوء أوضاع مأساوية متدهورة في جمهورية مالي.
تشكل مصر مثالا آخر: لم يصل هذا البلد إلى شاطيء الأمان بعد, هذا على الرغم من أن عملية تغيير النظام لم تصحبها موجة عنف, وأن حسني مبارك, الذي حكم البلاد لمدة تزيد عن ثلاثين سنة, قد غادر القصر الجمهوري بمليء إرادته, بعد أسابيع قليلة من بدء حركة الاحتجاج.
كيف لنا أن لا نقلق مع ذلك, هذا فضلا عن كثير من المشكلات الأخرى, من تواتر المعلومات التي تثبت تصاعد حدة المواجهات الطائفية, والانتهاكات الحاصلة بحق الأقليات المسيحية في البلاد؟
لهذا, فإن الأسباب التي تدفعنا إلى تبني المقاربة الأكثر توازنا فيما يخص الأزمة السورية, والتي هي الأكثر حدة في المنطقة الآن, أكثر من كافية. لقد اتضح لنا, تبعا للأحداث التي جرت في ليبيا, استحالة موافقة مجلس الأمن على اتخاذ قرارات غامضة, تتيح للقائمين على تنفيذها ميدانيا, التصرف تبعا لأهوائهم. والتأكيد على أن أي تفويض يصدر, من الآن فصاعدا باسم الأسرة الدولية, يجب أن يكون واضحا, ومحددا قدر الامكان, تجنبا لأي غموض ممكن.
لسوء الحظ فإننا نفتقد بشكل ذريع لتحليلات مؤهلة وصادقة لتطورات الأوضاع, والنتائج المحتملة في سورية. وفي غالب الأحيان يستعاض عن هذه التحليلات بصور مبسطة, وكليشيهات دعائية بالأسود والأبيض. لاتزال المصادر الأساسية للمعلومات على الساحة الدولية, تنتج مقالات تتحدث عن نظام ديكتاتوري, فاسد, يقمع بوحشية, طموحات شعبه المتطلع إلى الحرية والديمقراطية.
لكن كتاب هذه المقالات, لم يسألوا أنفسهم, على مايبدو, كيف يمكن لحكومة أن تبقى صامدة طيلة عام كامل, على الرغم من العقوبات المفروضة عليها من قبل أهم شركائها الاقتصاديين في البلد, إذا لم يكن لها أي دعم شعبي؟ ولم يسألوا أنفسهم لماذا أقدمت غالبية أفراد الشعب على التصويت لصالح مشروع الدستور المقترح من قبل السلطة؟ ولماذا, لاتزال غالبية العسكريين, رغم كل ماحصل, أوفياء لقادتهم؟
إذا كان الجواب على هذا السؤال, هو الخوف, من حقنا أن نتساءل لماذا لم يكن عامل الخوف في صالح أنظمة أخرى؟
لقد أعلنا مرارا وتكرارا, أن روسيا لاتدافع عن النظام الحالي في دمشق, ولم يكن لديها أي موجبات سياسية, أو اقتصادية, أو أي أسباب أخرى لتفعل ذلك.
وفي الواقع لم نكن يوما شريكا تجاريا, أو اقتصاديا مهما لهذا البلد, الذي كانت حكومته على تواصل أقوى مع عواصم أوروبا الغربية. وليكن واضحا سواء في نظرنا, أو في نظر الآخرين, أن الجزء الأكبر من مسؤولية الأزمة التي تعصف بالبلاد, تقع على عاتق الحكومة السورية, التي فشلت في سلوك طريق الاصلاح في الوقت المناسب, وفي استخلاص النتائج الناجمة عن الاضطرابات العميقة, التي حصلت في صميم العلاقات الدولية.
كل هذا حق. لكن هناك مع ذلك وقائع أخرى.
سورية بلد متعدد الطوائف, يعيش فيه المسلمون السنة, إلى جانب الشيعة والعلويين, إضافة إلى المسيحيين الأرتودوكس, والمذاهب الأخرى منهم, مع الدروز والأكراد. ظلت حرية الاعتقاد محترمة في سورية, طيلة العقود الأخيرة من حكم البعث العلماني, لهذا فإن الأقليات الدينية تخشى من الاطاحة بالنظام, كي لاينتهي هذا التقليد المتبع.
عندما نؤكد على ضرورة الاصغاء لهذه المخاوف, وأخذها بعين الاعتبار, نتهم أحيانا بأننا نتخذ مواقف معادية للسنة, وبشكل أوضح, معادية للمسلمين. ليس هناك ما هو أكثر مجافاة للحقيقة من هذا الاعتقاد.
في روسيا, ثمة أناس من طوائف متعددة, غالبيتهم مسيحيون أرتودوكس, يعيشون منذ قرون عدة إلى جانب المسلمين. كما أن بلدنا لم يخض عبر تاريخه, حروبا استعمارية في الوطن العربي. بل على العكس تماما, فقد دأبت روسيا على دعم استقلال الشعوب العربية, والوقوف إلى جانب حقهم في التنمية المستقلة.
أيضا يجب التذكير بأن روسيا لاتتحمل أي مسؤولية نجمت عن الاضطرابات الاجتماعية والاحتقانات, التي استمرت حتى الآن, إثر الهيمنة الاستعمارية للمنطقة.
وهنا أريد أن أتحدث بشكل مختلف.
إذا أعرب بعض الأفراد في مجتمع عن قلقهم من احتمال تعرضهم لتمييز على أساس ديني أو عرقي, فمن الواجب أن تقدم لهم كل الضمانات الضرورية, وفقا للمعايير الانسانية الدولية المعمول بها.
لقد شكلت مسألة حقوق الانسان واحترام الحريات الأساسية تاريخيا, ولا تزال تشكل مشكلة كبرى لجميع الدول في الشرق الأوسط, وهي بشكل أو بآخر, أحد أهم أسباب "الثورات العربية".
وبناء على ذلك, لم تكن سورية يوما, تلميذا سيئا على صعيد الحريات المدنية في المنطقة, وهي أكثر تقدما, وبما لايقارن مع بعض البلدان التي تسعى إلى إعطاء دمشق دروسا بالديمقراطية هذه الأيام.
في واحد من أعدادها الصادرة مؤخرا, نشرت صحيفة لوموند ديبلوماتيك, لائحة تتضمن انتهاكات حقوق الانسان في احدى الدول الكبرى بالمنطقة العربية, تتضمن, من بين جملة أمور, تنفيذ 76 حكم بالإعدام, فقط خلال العام الماضي 2011, استنادا إلى اتهامات تتعلق بممارسة الشعوذة.
فإذا كنا نرغب حقا تحفيز احترام حقوق الانسان في الشرق الأوسط, علينا أن نؤكد على هذا الهدف بكل صراحة. وإذا كنا نعلن صراحة بأن مسألة وقف نزيف الدماء, هي أهم مايشغلنا, وبتعبير آخر, يجب علينا أن نمارس كل الضغوط الممكنة التي من شأنها أن توقف اطلاق النار في مرحلة أولى, تليها مرحلة تشجيع الحوار بين جميع الأطراف في سورية, ضمن هدف يؤدي إلى اجراء مفاوضات حول تسوية سلمية للأزمة, من خلال السوريين أنفسهم.
لقد أعربت روسيا عن مضمون هذه الرسائل, منذ الأيام الأولى للاضطرابات في سورية. وقد كان واضحا في نظرنا, وفي نظر كل شخص يملك معلومات كافية عن هذا البلد, أن ممارسة الضغط بشكل يفضي إلى تنحي بشار الأسد فورا عن الحكم, خلافا لرغبة شريحة كبرى من المجتمع السوري, لاتزال تدعم النظام القائم ضمانا لأمنها ورفاهيتها, من شأنه أن يغرق سورية في حرب أهلية دموية طويلة الأمد. ونرى أنه يتوجب على اللاعبين الخارجيين أن يساعدوا السوريين على تجنب هذا السيناريو , وأن يحثوهم على انتهاج اصلاحات تطورية, لا بل ثورية, من داخل النظام السياسي السوري نفسه, عبر حوار وطني دون اكراه ممارس من الخارج.
إذا أخذنا الحقائق الراهنة في سورية بعين الاعتبار, هذا يعني أنه يتوجب علينا أن نعترف بأن تقديم الدعم الأحادي الجانب للمعارضة, خصوصا الطرف الأكثر عدوانية منها, لن يؤدي إلى تحقيق السلام في هذا البلد في المستقبل المنظور. وسيدخلنا في تناقض مع الهدف المعلن, في تقديم الحماية للمدنيين. مايرجح غلبة هذا الخيار, هو أن الجهود الرامية إلى تغيير النظام في دمشق, تأتي في اطار استراتيجية جيو سياسية اقليمية, أوسع نطاقا.
ليس هناك أي شك, بان هذه المخططات تستهدف ايران بالدرجة الأولى, بالنظر إلى تآلف دول كبرى تشمل بالإضافة إلى الولايات المتحدة, بلدانا في حلف الناتو, وإسرائيل وتركيا, تميل جميعها إلى اضعاف تموضع ايران الاقليمي.
فاحتمال توجيه ضربة عسكرية لإيران, يشكل مادة لأكثر موضوعات النقاش الجارية هذه الأيام. وهنا لابد من أن أشدد وباستمرار, على أن اللجوء لمثل هذا الخيار, ستكون له نتائجه الوخيمة, بل المأساوية.
لقد فشلت كل محاولات حل العقد المستعصية بأدوات المشكلات القديمة. لنتذكر بهذا الصدد أن غزو العراق من قبل الولايات المتحدة, تم تصويره في الماضي على أنه " الفرصة الوحيدة" لتغيير الوقائع السياسية والاقتصادية في "الشرق الأوسط الموسع", بشكل سريع وحاسم, وجعله منطقة مشابهة للنموذج الأوروبي في التنمية.
فلو قمنا بفصل القضايا المتعلقة بإيران, لتبين بما لا يرقى إليه الشك, أن تأجيج الاضطراب, والتحريض على اقتتال السوريين فيما بينهم, من شأنه أن يؤدي إلى نشوء تطورات, قد يكون لها تأثيرا سلبيا, ونتائج مدمرة على مساحات واسعة من الأراضي المحيطة بسورية, سواء على صعيد الأمن الاقليمي, أو الأمن الدولي.
يأتي في مقدمة تلك المخاطر, فقدان السيطرة على الحدود الفاصلة بين اسرائيل وسورية, وتسميم الأوضاع في لبنان, كما في كل بلدان المنطقة, ووصول أسلحة إلى "أيد شريرة" وخصوصا منها المنظمات الارهابية. وقد يكون تصعيد التوتر, وتعميق التناقضات الطائفية داخل المجتمعات الاسلامية, أشد تلك المخاطر احتمالا.
***
لنعد إلى تسعينيات القرن الماضي, حين أشار صموئيل هنتنغتون في كتابه "صدام الحضارات" إلى نزعة مفهوم الهوية, المرتكزة إلى الحضارة والدين, بهدف تحقيق مكاسب مهمة في عصر العولمة, موضحا بشكل مقنع عن تراجع الغرب نسبيا في بسط نفوذه.
إذن من المبالغ فيه محاولة تطوير منظومة علاقات دولية حديثة, ترتكز بشكل أحادي على مثل هذه الاستنتاجات. كما لم يعد من الممكن في وقتنا الراهن تجاهلها, لأنها ترتبط بمروحة من العوامل المميزة, أبرزها الحدود الوطنية الأقل اختراقا, وثورة المعلومات التي كشفت عن عدم تكافؤ واضح في الواقع السوسيو اقتصادي. كما لم يعد ممكنا تجاهل رغبات الشعوب المتعاظمة في الحفاظ على هوياتها في الظروف الراهنة, من جهة, وسعيها لتجنب مخاطر وضعها في قائمة الأصناف المهددة بالانقراض من جهة أخرى.
لقد كشفت الثورات العربية بلا منازع عن إرادة شعوبها في العودة إلى جذور حضارتها, التي شهدناها عبر اندماج شعبي واسع في الحركات والأحزاب التي تتحرك تحت راية الاسلام. هذه النزعة, لا نراها بهذا الوضوح إلا في العالم العربي. الدليل على ذلك تركيا التي تتموضع بفاعلية أكبر, كلاعب مهم في الفضاء الاسلامي, والمنطقة المحيطة بها.
هناك بلدان في آسيا, ومنها اليابان, التي تؤكد بصوت عال على هويتها الوطنية. إن أوضاعا كهذه تبرهن أكثر فأكثر, أن ثمة مخططا مزدوجا بسيطا, أو مبسطا, تاريخه يعود إلى الحرب الباردة, موصوف بالصيغ المعروفة (شرق-غرب, رأسمالية-اشتراكية, شمال-جنوب), قد حل للتو كواقع جيوسياسي, متعدد الأبعاد, لايترك مجالا للتعرف على عامل مهيمن وحيد.
لقد أظهرت الأزمة المالية والاقتصادية العالمية المناقشات التي دارت حول حقيقة أن أي نظام بوسعه أن يحتل موقعا مسيطرا في أي مجال, سواء كان اقتصاديا, سياسيا, أم ايديوجيا.
لم يعد هناك أي مجال للشك, أنه في الاطار الموسع الذي يحدد التنمية لغالبية الدول, والذي يتصف بالحكم الديمقراطي, واقتصاد السوق, فإن كل بلد سوف يختار منفردا نموذجه السياسي والاقتصادي, الذي تحتل فيه التقاليد, والثقافة, والخصوصيات التاريخية, المكانة التي تستحقها. ينتج عن هذا أن عامل الهوية الذي يستند إلى الحضارة, سيكون له على الأرجح, تأثير كبير على العلاقات الدولية.
لايمكن لهذه النتائج على الصعيد السياسي العملي, سوى الايحاء بشيء واحد: إن محاولات فرض منظومة قيم خاصة غير مجدية, ولاتؤدي إلا لزيادة حدة التوتر بين الحضارات. هذا لايعني قطعا أنه يتوجب علينا أن نتخلى بشكل نهائي عن التأثير ببعضنا بعضا, واعطاء صورة جيدة عن بلدنا على الساحة الدولية.
مع ذلك, ينبغي أن يتم هذا الأمر عبر وسائل نزيهة وشفافة, من شأنها أن تحفز نشر الثقافة, والتربية, والعلوم الوطنية, مقدمة بذلك الدليل على احترامها لحضارات الشعوب الأخرى, ولتأتي بمثابة اجراءات حماية للتنوع العالمي, واحترام التعددية في القضايا الدولية.
لقد بات واضحا أن الطموحات الرامية إلى تطبيق تكنلوجيا متقدمة في النشر الإعلامي والاتصالات, خاصة منها شبكات التواصل الاجتماعية, بهدف تغيير عقليات شعوب أخرى, وخلق وقائع جديدة, هي على المدى البعيد عرضة للفشل. لأن العروض المطروحة في سوق الأفكار هذه الأيام شديدة التنوع, سيما وأن النظم الافتراضية لايمكنها أن تنتج إلا واقعا افتراضيا, إلا إذا كنا نتبنى بالطبع عقلية مماثلة لشخصية الشقيق الأكبر في رواية جورج أورويل. وفي هذه الحال, بوسعنا أن نتخلى فورا عن مفهوم الديمقراطية في مجملها, ليس فقط في البلدان الخاضعة لنفوذ ما, بل أيضا في البلدان التي تمارس الديمقراطية.
لقد أصبح موضوع تطوير مقياس عالمي للقيم والمباديء الأخلاقية, مسألة سياسية من الدرجة الأولى. إن وجود مقياس كهذا, من شأنه أن يرسي دعائم حوار محترم ومثمر بين الحضارات, يرتكز إلى المصالح المشتركة التي تقلص عدم الاستقرار, وتقود إلى خلق نظام دولي جديد, يفضي في نهاية المطاف إلى تأسيس نظام عالمي متين وفعال, ومتعدد المراكز.
لا يمكننا من هذا المنظور أن نضمن النجاح إلا إذا تجنبنا أية مقاربات بالأسود والأبيض. الأمر الذي يفرض علينا أن نعالج مسألة المخاوف المغالية, المتعلقة بحقوق الأقليات الجنسية, بنفس القدر الذي نعالج فيه على النقيض, الجهود الرامية إلى الرفع من شأن مباديء أخلاقية ضيقة على المستوى السياسي, بشكل يرضي مجموعة ما, أو ينتهك الحقوق الطبيعية لمواطنين, خصوصا الذين ينتمون لطوائف أخرى.
***
لقد وصلت العلاقات الدولية إلى حد من التأزم لايمكن تجاوزه دون إلحاق ضرر بالغ بالاستقرار العالمي. لهذا السبب فإن أي عمل يهدف إلى إطفاء الحرائق الاقليمية, بما فيها النزاعات الداخلية ضمن الدول, يجب أن يتم بشكل مدروس قدر الامكان, دون أن تطبق عليه أي معايير جاهزة.
لقد أدى استخدام "عصا العقوبات" دائما إلى طريق مسدودة. هنا يجب على كل الأطراف في النزاعات الداخلية أن يكونوا مطمئنين إلى حقيقة, أن الأسرة الدولية لن تتوانى عن تشكيل جبهة موحدة, من شأنها أن تتحرك وفقا لمباديء صارمة, من أجل وضع حد لأعمال العنف بالسرعة الممكنة, والوصول إلى حل مقبول ومتبادل, من خلال حوار يشمل كل الأطراف المتنازعة.
تنحني روسيا أمام هذا النمط من المباديء المتعلقة النزاعات الداخلية, الأمر الذي يفسر مواقفها إزاء الأوضاع في سورية. ومن هذا المنطلق قدمنا دعمنا الكامل, والصادق, لمهمة المبعوث الخاص للأمم المتحدة والجامعة العربية, كوفي أنان, الهادفة إلى ايجاد تسوية مقبولة من كلا الطرفين المتنازعين بالسرعة الممكنة. تعكس بيانات الرئاسة وقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بهذا الخصوص, المقاربات التي أيدناها منذ بداية الاضطرابات في سورية. نرى انعكاس هذه الأفكار أيضا في بياننا المشترك مع جامعة الدول العربية الذي تم اعتماده في العاشر من شهر آذار-مارس 2012.
فلو استطعنا تطبيق هذه المقاربات في سورية, فإنها ستغدو بلا شك, نموذجا يحتذى للمساعدة الدولية, في معالجة الأزمات في المستقبل.
إن الركيزة الأساسية لخطة كوفي أنان " بمبادئها الستة ", هي ضمان وقف أعمال العنف أيا كان مصدره, والتأسيس لحوار سياسي تقوده سورية, والاستجابة لهموم وطموحات الشعب السوري. إن الهدف من هذا الحوار, هو التوصل إلى بروز مكون سياسي جديد في سورية, يأخذ بعين الاعتبار مصالح كل المجموعات التي يتكون منها المجتمع السوري, بطوائفه المتعددة.
لقد بات ضروريا تشجيع إعداد, وتنفيذ اتفاق من شأنه ايجاد حل لهذا الصراع, دون التحيز لأي طرف, ومكافأة من يحترم بنود ذلك الاتفاق, وفضح من يعارضون مسار السلام بوضوح. ومن أجل بلوغ هذا الهدف, كان لابد من وضع آلية مراقبة نزيهة, هذه الآلية التي وضعت وفقا لقراري مجلس الأمن رقم 2042 و 2043, والتي يشارك فيها مراقبون عسكريون روس.
لكن للأسف, فقد تعرضت عملية تطبيق خطة عنان لمصاعب جمة, وتأثر العالم بمشاهد المجازر التي ارتكبت بحق مدنيين عزل, وكان أكثرها مأساوية المجزرة التي وقعت في قرية الحولة بتاريخ 25 أيار-مايو 2012, وكذلك أعمال العنف الرهيبة, التي جرت في وقت لاحق في أطراف مدينة حماه.
من المهم هنا الكشف عن المسؤولين عن هذه الأحداث ومعاقبتهم. لايحق لأي فرد أن ينصب نفسه قاضيا, ويستخدم هذه الأحداث المأساوية ليحقق من خلالها غايات سياسية. إن مجرد التخلي عن هذه الممارسات, من شأنه أن يضع حدا لدوامة العنف في سورية.
هؤلاء الذين يزعمون أن روسيا تسعى لانقاذ بشار الأسد, هم بلا شك مخطئون. أريد هنا أن أؤكد على مسألة أن الشعب السوري هو من اختار النظام والقيادة السياسية لبلده. نحن لانسعى أبدا لتبييض ما ارتكبته دمشق من أخطاء وسوء تقدير, خصوصا منها ما يتعلق باستخدامها القوة ضد المتظاهرين السلميين في بدايات الأزمة.
أما من سيحكم سورية, فلا يبدو هذا الأمر في نظرنا مسألة أساسية. الأولوية في نظرنا هي لوضع حد نهائي لقتل المدنيين, والتأسيس لحوار سياسي في ظل ظروف تأخذ في الحسبان مسألة السيادة, والاستقلال, ووحدة البلاد, التي يتوجب على جميع الفاعلين الخارجيين احترامها.
نحن لانبرر أي عنف كان. إن قصف المناطق السكنية من قبل القوات الحكومية, أمر غير مقبول, ويجب ألا يفهم بانه تساهل مع ما يمارس من أفعال ارهابية, وجرائم قتل موصوفة, يرتكبها المتمردون على النظام, بمن فيهم تنظيم القاعدة, في مختلف المدن السورية.
لقد فرض منطق الأشياء ضرورة كسر حلقة العنف المفرغة, فتجلى في اجماع كافة الدول الأعضاء في مجلس الأمن, على دعم خطة أنان.
لقد صدمتنا تصريحات وممارسات بعض الأطراف الفاعلة, المتورطة في الأزمة السورية, لأنها برهنت على مصلحتهم في فشل مساعي المبعوث الأممي الخاص. يتصدر هذه الأطراف المناشدات التي أطلقتها إدارة "المجلس الوطني السوري" لتدخل أجنبي في سورية.
كيف يمكن لتصريحات من هذا القبيل أن تساعد "المجلس الوطني السوري" في جهوده الرامية إلى توحيد صفوف المعارضة السورية تحت رايته؟ لاشيء أوضح من ذلك.
نحن نكفل عملية دمج المعارضة السورية, فقط على قاعدة حوار سياسي مع الحكومة, بما يتوافق تماما مع خطة كوفي أنان.
لاتزال روسيا تعمل بشكل شبه يومي مع السلطات السورية, وتضغط عليها لكي تمتثل كليا للنقاط الست التي اقترحها كوفي أنان, وتتخلى نهائيا عن أوهامها التي تجعلها تعتقد بأن الأزمة السورية, ستحل نفسها بنفسها, بشكل أو بآخر.
نحن نعمل بنفس القدر أيضا, إلى جانب تقريبا كل ممثلي تفرعات المعارضة السورية. ونحن على قناعة أيضا بأنه لو تحرك كل شركائنا بنفس العقلية, من دون نوايا مبيتة, ومعايير مزدوجة, لكان من الممكن التوصل إلى تسوية سلمية في الأزمة السورية.
يجب علينا جميعا أن نلقي بكل ثقلنا على النظام والمعارضة, لدفعهم باتجاه وقف الأعمال العدائية, والجلوس إلى طاولة المفاوضات.
نحن نرى أيضا أنه من المهم اطلاق مبادرات مشتركة في هذا الاتجاه, وعقد مؤتمر دولي يضم جميع البلدان المعنية مباشرة بالأزمة السورية. بهذه العقلية الموضوعية, نحافظ على التواصل عن قرب مع كوفي أنان, وشركاء آخرين.
فقط من خلال التحرك على هذا النحو, يمكننا أن نجنب الشرق الأوسط من خطر الانزلاق إلى هاوية الحروب والفوضى, وكم سيكون من المحبب التأكيد على أنه بوسعنا أن نبقى على الجانب الصحيح من التاريخ.
نحن واثقون من أن الصيغ الأخرى التي تنطوي على تدخل أجنبي في سورية, والتي تتراوح بين حجب قنوات تلفزيونية لاتروق للبعض, ومضاعفة حجم تدفق شحنات الأسلحة لجماعات من المعارضة, وصولا إلى توجيه ضربات جوية, لن تجلب السلام, لا لسورية, ولا للمنطقة ككل.
هذا يعني أنها حلول لن يبررها التاريخ.