لم يكن الأمين العام للأمم المتحدة يأمل إبان الإعداد لدورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في حل المشكلات الدولية، بقدر ما كان يفكر بإيجاد السبل التي من شأنها إثارة صدام بين مؤيدي ومعارضي الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لكن ما حدث كان أمراً مختلفاً تماماً.
لاشك أننا شهدنا منافسة كلامية بين الرئيس ترامب من جهة، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من جهة أخرى. ولم ينته هذا السجال إلا في اليوم الرابع بمداخلة وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، التي أعلن فيها عن ولادة عالم ما بعد الغرب.
وبالعودة إلى الموضوعات الجوهرية، أي إلى الأسباب التي أفرزت المشكلات الحالية، أعلن لافروف: «من ناحية، نرى توجها نحو تعزيز مبادئ تعددية مراكز النظام العالمي (…) وتطلع الشعوب نحو الحفاظ على السيادة ونماذج التنمية المتوافقة مع هوياتهم الوطنية والثقافية والدينية، ومن ناحية أخرى، نلاحظ رغبة العديد من قادة الدول الغربية في الحفاظ على وضعهم، المعلن، «كزعماء للعالم»، وإبطاء عملية موضوعية لا رجوع عنها، بإرساء دعائم التعددية القطبية».
من هنا، لم يعد يعني موسكو مهاجمة ترامب أو حتى الولايات المتحدة، بل الغرب برمته. وقد ذهب لافروف إلى حد رسم خط متواز مع اتفاقية ميونخ لعام 1938، في ذلك الوقت، كانت فرنسا وبريطانيا متحالفتين مع ألمانيا وإيطاليا.
لاشك أن شعوب أوروبا الغربية تنظر في الوقت الحالي إلى هذا الحدث على أنه موقف جبان من فرنسا وبريطانيا نزولاً عند مطالب النازيين، لكنه لايزال منقوشا في الذاكرة الروسية على أنه الخطوة الحاسمة التي أشعلت الحرب العالمية الثانية. وفي حين كان مؤرخو أوروبا الغربية يسعون إلى تحديد من الذي اتخذ قرار الحرب، ومن تابعوا ذلك المسار، كان المؤرخون الروس يرون شيئاً واحداً فقط: لم يتحمل أي من الأوروبيين الغربيين المسؤولية.
وبالتوسع أكثر بانتقاداته، لم يندد لافروف بالتطاول على القانون كما أوضح الرئيس الإيراني حسن روحاني، بل بالتمادي على البنى الدولية. وأشار إلى أن الغربيين يعتزمون إجبار أمم على الدخول في تحالفات عسكرية ضد إرادتها، وتهديد بعض الدول، التي تتطلع إلى اختيار شركائها بنفسها.
وبالإشارة إلى قضية جيفري فيلتمان، شجب لافروف محاولات السيطرة على إدارة الأمم المتحدة، وجعلها تلعب الدور المخصص للدول الأعضاء، وفي النهاية استخدام الأمانة العامة للتلاعب بها.
واختتم لافروف كلمته بالتأكيد على أن كل ما أشاعه الغرب من فوضى، لم يمنع بقية العالم من التعاون والتنمية، وذكًر بنجاح «الشراكة الأوراسية الموسعة»، التي تحدث عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في منتدى فالداي في عام 2016، لاستكمال «الحزام والطريق».
هذه المبادرة الواسعة، التي لم ترحب بها في البداية إلا الصين، تدعمها الآن منظمة معاهدة الأمن الجماعي، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ورابطة الدول المستقلة، وتكتل بريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون. ومن ثم فإن المقترحات المضادة التي قدمتها كل من أستراليا واليابان والاتحاد الأوروبي، ولدت ميتة.
وفي حين جرت العادة لدى المسؤولين الغربيين على الإعلان عن خططهم مسبقاً، ومناقشتها لاحقاً، اعتاد الدبلوماسيون الروس على عدم الحديث عن خططهم إلا عندما تطرح على النقاش، ضماناً لتنفيذها.
وباختصار، فقد فشلت إستراتيجية احتواء كل من روسيا والصين طوال قرن من الزمن، وتحول مركز ثقل العالم شرقاً، ليس ضد الغرب، بل نتيجة أخطائهم.