أدت خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا في نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى نشوء السوق الأوروبية المشتركة من جهة، وحلف شمال الأطلسي من جهة أخرى، وتصالح جميع المتحاربين، الذين راحوا يتعلمون شيئاً فشيئا كيفية التعاون فيما بينهم، وبالتالي تجنب نشوب حرب عالمية ثالثة.
وفي مقابل الحماية الاقتصادية والعسكرية الأميركية، تخلى الأوروبيون عن مجرد محاولة التقرب من الاتحاد السوفييتي الشيوعي.
لكن، بعد انحلال الاتحاد السوفييتي عام 1991، لم يعد لدى السوق الأوروبية المشتركة، وحلف الناتو أي خصم. وبدلاً من حل هذه الهياكل أو إعادة توصيفها، قررت الولايات المتحدة ضم الأعضاء السابقين في حلف وارسو إليه، باستثناء روسيا منافستها الأزلية بطبيعة الحال.
اتخذوا بعد ذلك خطوة لم تناقش في أي وقت سابق، فقرروا تحويل نظام التعاون المشترك بين الدول في السوق الأوروبية المشتركة، إلى إمبراطورية بديلة، فأنشؤوا الاتحاد الأوروبي، وهو في الواقع هيئة بيروقراطية مشتركة كبيرة في بروكسل، وشرعوا على الفور بتنسيق جميع جوانب الحياة اليومية، كقطاعات الشرطة والعدالة والنقد. وعالجت معاهدة ماستريخت الموقعة عام 1992 كل شيء باستثناء الجيش، لأن الاتحاد الأوروبي يقع تحت حماية حلف الناتو، أي الولايات المتحدة.
لكن سرعان ما اتضح بعد بضع سنوات، أن الاتحاد الأوروبي، وعلى غرار الاتحاد السوفييتي السابق، يكاد يختنق بسبب بيروقراطيته. وأن معدل النمو الاقتصادي لم يتجاوز عتبة 1 بالمئة سنوياً، على حين أن العديد من الدول في العالم يحقق نمواً سنوياً برقم مزدوج. الأمر الذي جعل البريطانيين يتساءلون، بعد أن رأوا أن بعض مستعمراتهم السابقة مثل الهند، تصل معدلات النمو الاقتصادي فيها إلى 7 بالمئة، عن مبررات البقاء في الاتحاد الأوروبي، على حين أن حلف الكومنولث يقدم لهم آفاقا أفضل. فقرروا في حزيران 2016 مغادرة الاتحاد الأوروبي «بريكسيت». الأمر الذي أثار حالة من الذعر في بروكسل، واحتمال حدوث طفرة عامة، فهرعت على الفور إلى تخريب «البريكسيت» لثني الدول الأعضاء الأخرى عن اتباع مثال لندن.
اصطدمت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، على مدى العامين الماضيين، بالإرادة السيئة لشركائها الألمان والفرنسيين.
والأسوأ بالنسبة إليها، هو ما حدث في قمة سالزبورغ المنعقدة في أيلول الماضي، حين وضع الاتحاد شروطا محددة لخروج بريطانيا، منها وجوب قبول المملكة المتحدة بتطبيق القواعد التي سيواصل الاتحاد صياغتها، لفترة غير محددة زمنيا، ومن دون أن يكون لبريطانيا أي رأي فيها. وفي حال رفضت لندن الامتثال لهذه الشروط، فإن الاتحاد لن يتردد في إطلاق حرب التحرير الوطني لأيرلندا الشمالية من جديد. وبما أنها احتجت على تلك الشروط، فقد أغلق الباب بوجهها حين استؤنفت جلسات العمل.
وفي نهاية المطاف، لم يكن أمام السيدة تيريزا ماي، بعد أن التف الحبل بإحكام حول عنقها، إلا أن تعرب الأسبوع الماضي، تحت ضغط وزرائها ومواطنيها الذين وقفوا جميعاً ضدها، وضد بروكسل في الوقت نفسه، عن امتثالها لكل شروط الاتحاد التي تنتهك سيادة بلادها.
في الوقت نفسه، فتح الاتحاد، الذي عارض إجراء انتخابات ديمقراطية في سورية عام 2014 وطبق عقوبات اقتصادية بلا مسوغ بحقها، سبل إجراء عقوبات سياسية بحق بولندا وبلغاريا، بتهمة عدم احترامهما «القيم المشتركة». كما رفض الاتحاد، علاوة على ما تقدم، حق إيطاليا في اختيار سياستها الاجتماعية، ما أدى إلى رفضه لميزانيتها العامة.
وما كان خلال ربع قرن من الزمن فضاءً رحباً من التعاون، أضحى نظاماً بيروقراطياً استبدادياً، انقلب ضد دوله الأعضاء، الذين صاروا يهدد بعضهم بعضاً، وتحول التنافس الذي كان سائدا بينهم إلى نزاع، تماما كما كان حالهم في بداية القرن العشرين، مع كل ما نعرفه من تبعات مأساوية عن تلك الحقبة.