بعد أن تناول المساواة واختلاف الثقافات بين البشر، والتذكير بأننا نبقى حذرين من الأشخاص الذين لا نعرفهم، يتناول المؤلف أربعة جوانب للشرق الأوسط: الإنشاء الاستعماري للدول، حاجة السكان لإخفاء قادتهم، الإحساس بالوقت، والاستخدام السياسي للدين.
هذا المقال هو تتمة للجزء الأول، فهم العلاقات الدولية 1/2
https://www.voltairenet.org/article210707.html
منطقة تاريخية مقسمة بشكل مصطنع.
خلافًا للاعتقاد السائد، لا أحد يعرف حقاً ما هي بلاد الشام، ولا الشرق الأدنى، أو الشرق الأوسط.
وفي الواقع، اختلفت هذه المصطلحات في المعنى تبعاً للأزمنة، والأوضاع السياسية.
ومع ذلك، فإن مصر الحالية، وإسرائيل، ودولة فلسطين، والأردن، ولبنان، وسوريا، والعراق، وتركيا، وإيران، والمملكة العربية السعودية، واليمن، وإمارات الخليج، كلها دول تتمتع بتاريخ مشترك منذ آلاف السنين. وانقسامهم السياسي يعود إلى مخرجات الحرب العالمية الأولى، أي إلى الاتفاقيات السرية التي تم التفاوض عليها في عام 1916 بين السير مارك سايكس (الإمبراطورية البريطانية)، وفرانسوا جورج بيكو(الإمبراطورية الفرنسية) وسيرغي سازونوف (الإمبراطورية الروسية). وقد حدد مشروع المعاهدة هذا تقسيم العالم لمرحلة مابعد الحرب بين القوى العظمى الثلاث في ذلك الوقت.
بيد أنه إثر الإطاحة بالقيصر، ومجريات الحرب التي لم تجر كما كان كانوا يتمنون، تم تطبيق مسودة المعاهدة في الشرق الأوسط فقط من قبل البريطانيين والفرنسيين وحدهم تحت اسم "اتفاقية سايكس بيكو". ثم كشف عنها البلاشفة الذين عارضوا القيصريين، ولا سيما من خلال الاعتراض على معاهدة سيفر (1920) ومساعدة حليفهم التركي مصطفى كمال أتاتورك.
يتضح من كل هذا أن سكان هذه المنطقة يشكلون مجموعة سكانية واحدة، تتكون من العديد من شعوب مختلفة، موجودة في كل مكان، ومتداخلة بشكل وثيق.
كل صراع حالي هو استمرار لمعارك ماضية. ومن المستحيل فهم الأحداث الجارية حالياً من دون معرفة المراحل السابقة.
على سبيل المثال، لبنانيو وسوريو الساحل هم فينيقيون. سيطروا تجارياً على البحر الأبيض المتوسط القديم، ثم تغلب عليهم سكان صور (لبنان) الذين أنشئوا أعظم قوة في ذلك الوقت، قرطاج (تونس). لكن الأخيرة تعرضت لدمار تام على من قبل روما (إيطاليا)، مما أدى إلى لجوء الجنرال هنيبعل إلى صور (لبنان)، وبيثينية (تركيا).
حتى لو لم نكن نعي ذلك، فإن الصراع بين التحالف العملاق المزعوم لـ "أصدقاء سوريا" وسوريا، هو استمرار لتدمير قرطاج من قبل روما، وصراع نفس ما يطلق عليهم اسم "أصدقاء سوريا" ضد السيد حسن نصر الله زعيم المقاومة اللبنانية، هو استمرار لمطاردة هنيبعل إبان سقوط قرطاج.
في الواقع، من العبث أن نحصر أنفسنا في قراءة الأحداث بمنظور الدولة، وتجاهل الانقسامات العابرة للدول في الماضي. أو، من خلال إنشاء الجيش الجهادي داعش، قامت الولايات المتحدة بتضخيم الثورة ضد النظام الاستعماري الفرنسي - البريطاني (اتفاقيات سايكس بيكو).
لم تكن "الدولة الإسلامية في العراق والشام" تزعم، لا أكثر ولا أقل من رغبتها في إنهاء استعمار المنطقة. وقبل السعي إلى الفصل بين الحقيقة والبروباغندا، ينبغي علينا أن نقبل كيف فُهمت تلك لأحداث شعورياً من قبل أولئك الذين عاشوها.
حرب مستمرة
منذ بداية التاريخ، كانت هذه المنطقة مسرحاً للحروب والغزوات، فضلاً عن حضارات سامية ومذابح، والمزيد من المذابح التي كانت جميع شعوب المنطقة تقريباً ضحاياها.
وفي هذا السياق، فإن الهاجس الأول لكل مجموعة بشرية، هو البقاء على قيد الحياة.
هذا هو السبب في أن اتفاقيات السلام الوحيدة التي يمكن أن تستمر، يجب أن تأخذ في الاعتبار عواقبها على المجموعات البشرية الأخرى.
على سبيل المثال، كان من المستحيل منذ 72 عاماً التوصل إلى اتفاق بين المستوطنين الأوروبيين لإسرائيل، والفلسطينيين بسبب التغاضي عن الثمن الذي يتعين على الجهات الفاعلة الأخرى في المنطقة دفعه.
لهذا كانت المحاولة الوحيدة للسلام التي جمعت كل الأطراف المتنازعة، هي مؤتمر مدريد الذي دعت إليه الولايات المتحدة ( بوش الأب)، والاتحاد السوفيتي (غورباتشوف) في عام 1991.
كان من الممكن أن تتكلل تلك المحاولة بالنجاح، لولا أن الوفد الإسرائيلي كان مايزال متمسكاً بالمشروع الاستعماري البريطاني.
لقد تعلمت شعوب المنطقة أن تحمي نفسها من هذا التاريخ المتضارب، بإخفاء قادتها الحقيقيين.
على سبيل المثال، عندما اخترق الفرنسيون "رئيس الوزراء" السوري رياض حجاب في عام 2012، اعتقدوا أنهم وقعوا على صيد سمين لإسقاط الجمهورية.
لكن الأخير لم يكن من الناحية الدستورية "رئيس الوزراء"، بل كان فقط "رئيس مجلس الوزراء" السوري.
وكما في الولايات المتحدة، فإن مدير مكتب البيت الأبيض، هو مجرد مسؤول رفيع المستوى بوظيفة أمين عام الحكومة، لكنه ليس سياسياً.
لم يسفر انشقاق حجاب عن أي نتيجة. ولا يزال الغربيون يتساءلون حتى اليوم، من هم الرجال المحيطون بالرئيس بشار الأسد.
هذا النظام، الضروري لبقاء البلد، والذي لا يتوافق مع النظام الديمقراطي. لا ينبغي فيه مناقشة الخيارات السياسية الرئيسية علناً. وبالتالي فإن دول المنطقة تثبت نفسها إما كجمهوريات، أو ملكيات مطلقة. فالرئيس أو الأمير يجسدان الأمة.
في الجمهورية، هو مسؤول شخصياً أمام الاقتراع العام. صور الرئيس الأسد الكبيرة، ليس لها علاقة بعبادة الشخصية التي نلاحظها في بعض الأنظمة الاستبدادية. إنها تجسيد لمسؤولياته.
كل ما يدوم بطيء
الغربيون معتادون على إعلان ما ينوون فعله. على عكس أهل الشرق، فهم يعلنون عن أهدافهم، لكنهم يتكتمون على الطريقة التي يفكرون من خلالها لبلوغ أهدافهم.
يتصور الغربيون، من خلال قنوات التلفزة الإخبارية التي تعمل على مدار الساعة، أن أي عمل لابد أن يكون له تأثير فوري.
يعتقدون أنه يمكن الإعلان عن الحروب بين عشية وضحاها، وتسوية الأوضاع. على عكس أهل الشرق، فهم يعرفون أن الحروب مخطط لها قبل عقد من الزمن على الأقل، وأن المتغيرات الدائمة الوحيدة، هي المتغيرات في العقلية التي تتطلب جيلًا أو أكثر.
وهكذا ، فإن " ثورات الربيع العربي" عام 2011، لم تكن اندلاعاً عفوياً للغضب لإسقاط الأنظمة الديكتاتورية، بل تنفيذاً لخطة وضعتها وزارة الخارجية البريطانية بعناية في عام 2004، وكشف عنها في ذلك الوقت أحد المبلغين، لكنها مرت دون أن يلاحظها أحد.
تم تصور هذه الخطة على غرار نموذج "الثورة العربية الكبرى" عام 1916-1918.
اعتقد العرب آنذاك، أنها كانت مبادرة من شريف مكة حسين بن علي، ضد الاحتلال العثماني. لكنها كانت في الواقع مؤامرة بريطانية، نفذها لورنس العرب، للاستيلاء على آبار النفط في شبه الجزيرة العربية، ووضع المذهب الوهابي في السلطة.
لم ينل العرب الحرية من تلك الثورة قط، بل نير البريطانيين بعد نير العثمانيين.
وبالمثل، فإن "ثورات الربيع العربي" لم تكن تهدف إلى تحرير أي إنسان، بل لإسقاط حكومات ووضع الإخوان المسلمين (جماعة أخوية سياسية سرية، تم تنظيمها على غرار المحفل الماسوني الكبير المتحد في إنكلترا) في السلطة في جميع أنحاء المنطقة.
الدين هو الأسوأ والأفضل في آن واحد
الدين ليس فقط محاولة لربط الإنسان بالمتعالي، بل هو أيضاً علامة هوية. لذلك تنتج الأديان رجالًا مثاليين، وتُهيكل مجتمعات.
في الشرق الأوسط ، كل مجموعة بشرية تنتسب لدين. هناك عدد هائل من المذاهب في هذه المنطقة، وغالباً ما يكون ظهور دين فيها، قراراً سياسياً.
على سبيل المثال، كان تلاميذ المسيح الأوائل يهوداً في القدس، لكن المسيحيين الأوائل - أي تلاميذ المسيح الأوائل الذين لم يعتبروا أنفسهم يهوداً- كانوا في دمشق حول القديس بولس الطرسوسي.
في المقابل، كان أتباع محمد الأوائل في شبه الجزيرة العربية، يُعتبرون مسيحيين يتبنون طقوساً بدوية محددة. لكن أتباع محمد الأوائل، الذين تميزوا عن المسيحيين، ودعوا أنفسهم مسلمين كانوا في دمشق حول الأمويين. إلى أن انقسم المسلمون إلى شيعة وسنة استناداً على ما إذا كانوا يتبعون مثال محمد، أو تعاليمه.
لكن إيران لم تصبح شيعية إلا عندما اختار الإمبراطور الصفوي تمييز الفرس عن الأتراك، بتحويلهم إلى هذا المذهب. بالطبع، يجهل كل دين حالياً هذا الجانب من تاريخه.
بعض الدول الحالية، مثل لبنان والعراق، تقوم على توزيع الوظائف حسب الحصص المخصصة لكل ديانة.
وفي أسوأ الأنظمة كلبنان، لا تنطبق هذه الحصص على الوظائف الرئيسية في الدولة فحسب، بل على جميع مستويات الخدمة المدنية، وصولاً إلى أدنى درجة في سلم الموظفين المدنيين. والزعماء الدينيون أهم من الزعماء السياسيين.
ونتيجة لذلك، تضع كل طائفة نفسها تحت حماية قوة أجنبية، الشيعة مع إيران، والسنة مع المملكة العربية السعودية (وربما قريباً مع تركيا)، والمسيحيين مع القوى الغربية.
في الواقع، يحاول كل طرف حماية نفسه من الآخرين بقدر ما يستطيع.
هناك دول أخرى مثل سوريا، تأسست على فكرة أن توحد جميع الطوائف هو الذي يمكنه الدفاع عن الأمة بغض النظر عن المعتدي وعلاقاته مع هذه الطائفة أو تلك، وأن الدين شأن شخصي، وكل فرد مسؤول عن أمن وسلامة الجميع.
سكان الشرق الأوسط منقسمون بين علمانيين ومتدينين. لكن الكلمات هنا لها معنى خاص.
إنها ليست مسألة الإيمان بالله أو عدمه، بل هي مسألة إقحام المجال الديني في الحياة العامة أو في الحياة الخاصة.
وبشكل عام، من الأسهل بالنسبة للمسيحيين، أكثر من اليهود والمسلمين، اعتبار الدين شأناً خاصاً، لأن المسيح لم يكن قائداً سياسياً، بينما كان موسى ومحمد قائدان سياسيان.
الخلط بين تصور الله وهوية الجماعة، يمكن أن تحرض الأديان على ردود فعل غير عقلانية وعنيفة للغاية، كما أظهر الإسلام السياسي بسخاء بالغ.
الدولة الإسلامية" (داعش) ليست أوهام مجانين، لأنها جزء من مفهوم سياسي للدين. أعضاؤها هم في الغالب أشخاص عاديون، يسكنهم هاجس القيام بعمل جيد. من الخطأ شيطنتهم أو اعتبارهم جزءًا من مذهب معين.
يُستحسن بدلاً من ذلك أن نسأل أنفسنا ما الذي يعميهم عن الواقع، ويجعلهم غير آبهين لجرائمهم.
خاتمة
قبل إصدار حكم على جهة فاعلة إقليمية معينة، من الضروري معرفة تاريخها وصدماتها حتى نتمكن من فهم ردود أفعالها تجاه حدث ما.
وقبل الحكم على نوعية خطة للسلام، يجدر بنا أن نتساءل، ليس فقط إذا كانت مفيدة لجميع من وقعوا عليها، بل أيضاً ما إذا كانت ستضر بالجهات الإقليمية الأخرى.