في الأول، كشف احتلال العراق عن حرب نهب كلاسيكية. لكن اليوم، يستحيل استخراج الموارد البترولية بشكل مريح. مع أن الولايات الأمريكية قررت البقاء، و دفع الثمن. و هو الهدف الاستراتيجي طويل المدى، و الذي يوجد مصلحة اقتصادية غير مباشرة للانتشار العسكري. استعراض القوة يبدو ضروريا لحماية الوضع الخاص للدولار، القادر الوحيد على ضبط اللاتوازنات في الاقتصاد الأمريكي المنهك.
الأسباب الاقتصادية التي حملت الولايات الأمريكية و بعض الدول التابعة إلى اجتياح العراق كانت محل العديد من التحاليل، أو غير مكتملة،وأغلب الوقت خاطئة. كانت للمحافظين الجدد متعة التسلية برفض الاتهامات التي ذكرت أن الحرب لم يكن لها أي هدف إلا نهب البترول العراقي. ادّعوا أنهم يثمنون السوق الدولية في إطار قوانين المنافسة. علاوة على ذلك، كل واحد يلاحظ بأن الحلفاء لا يستطيعون استخراج البترول كما يرغبون، و أنهم على الرغم من ذلك يصرون على التعنت و التورط في احتلال مكلف. الحقيقة أعمق من هذا و التحليل الدقيق لسياق اقتصادي تكاملي يفرض نفسه.
عبر بعض المظاهر فإن احتلال العراق عبارة عن حرب نهب كلاسيكية. فالإدارة و من خلال سلطة مؤقتة خاصة بالبلد المحتل، وعلى طراز جماعة الهنود، لايعدو أن يكون وجها من أوجه الكلونيالية الأنجلوسكسونية التقليدية [1]،و صلاحيات العقود الخاصة بإعادة إعمار البلاد عادت إلى مؤسسات مثل "هاليبورتون"، التي حظيت بالمكافأة من خلال المكاسب المأخوذة من تصدير البترول العراقي، مما يسمح بإعادة إدراج منشأة ذات قيمة حقيقية، و ليس مجرد مكسب نظري، في منظومة اقتصادية أمريكية منهكة.
الديون الخارجية الأمريكية وصلت إلى درجة عميقة: قبل عشرين سنة، كانت مديونية الإدارات الأمريكية تعادل نصف اقتصاد البلاد. اليوم، وصلت معدل 85% إلى درجة أن الخزينة عليها أن تضمن 2.6 مليار سيولة يوميا ، ويتم هذا بفضل منظومة إعادة التأهيل للبترودولار [2] . نفهم من ذلك جيدا أن الولايات الأمريكية مثل العراق، إيران و كورية الشمالية، فكرت في نقل احتياطياتهم المالية من الدولار إلى اليورو بما جعل الرئيس بوش يصيغ " محور الشر" [3] . و الحال أن المقاومة أعاقت هذا النهب، و على كل حال، الثروات القابلة للنهب لا يمكنها أن تفي التعادل في اختلال التوازنات للاقتصاد الأمريكي. على إدارة بوش أيضا أن تبقي على التدفق الرأسمال الأجنبي على أراضيها لجعل الاستثمار مغر.
و ليتم ذلك، فقد خفضت أولا تكلفة العمل، موسعة منسوبا قويا من الربح . لأجل هذا، يجب تحديد طبقة الأُجراء و التكاليف الاجتماعية. هو بالضبط ما تعكسه ميزانية إدارة بوش الأولى : عدد العاطلين عن العمل قاد مجموع المواطنين إلى الاعتراف بضياع جانب من غطائهم الاجتماعي، مما أحدث نقصا واضحا في تكلفة العمل. لهذا، كبار الصناعيين ساندوا ترشح السيد بوش. على العكس، كان الإعلان المسبق يوم 2 نوفمبر 2004 عن إمكانية فوز كيري، ملائما لإنعاش الضمان الاجتماعي للناخبين الأكثر فقرا، ترجمت بانخفاض عام في بورصة "وال ستريت"..
المرشح الديمقراطي كان مدعوما من كبار المضاربين مثل " وارن بوفي: أو" جورج سوروس" اللذان يستخلصان ايرادتهما من تكاثر اللامساواة في العالم و لا يأبهان لا بالصحة و لا بالاقتصاد الداخلي للولايات الأمريكية. ثانيا، للإبقاء على ثقة المستثمرين الأجانب، نشرت إدارة بوش قوتها العسكرية [4] .. الرأسمال لا يحب المخاطرة، و ليس ثمة أهم ملاذ إلا الدولة التي تدّعي أنها تقود العالم بالقوة. الحرب المستمرة تعطي صورة القوة المطلقة التي تتحرك كممغنط ينجذب نحو الرأسمال. لكن عكس حرب الخليج، حيث كانت التكاليف مسددة بإسهام مالي من أعضاء التحالف، بقية العالم دفعوا الثمن بطرق غير مباشرة: ثمن احتلال العراق. بانجذاب من قبل القوة الأمريكية، وضع المستثمرين الأجانب فائض الدولارات في الخزينة الأمريكية، محولة هكذا عدد من تكاليف الحرب إلى الدول الأجنبية، بمن فيها تلك المعارضة للحرب!
أغلبية " الليبراليين" في العالم ساندوا هذا الاحتلال لأنه كان معللا بأزمة على المستوى الدولي. لقد اكتشفوا قبل سنوات أن اقتصاد "« point com » " لم يعط إلا المكاسب السطحية، و أن نقص إنتاج الطاقة الشاملة في آفاق 2010 ( بداية محتملة لانحطاط أو زوال إنتاج البترول الدولي) كتبعية تقود إلى تقلص غير مسبوق للاقتصاد الدولي [5] . من حيث الحساب المفرط في التبسيط: إن كان بالإمكان رفع الثروات الشاملة، يجب إنقاص من عدد الناس الذين يستفيدون منها. انه نفس التفكير الذي قاد مفكري " التضاؤل"، و قبلهم " معارضي التوسع الاقتصادي الجدد" "« néo-malthusiens » " لاقتراح الحلول المختلفة، إنسانية أو بالضرورة جماعية. لكن الشيء المؤكد أن مفكرة " التطور الدائم" فشلت، قبل سنوات، بالضبط عندما تضاعف عدد السكان في العالم متجاوزا الموارد الموجودة، أي في بداية سنوات 80.
لتفادي انهيار اقتصادها، لم يكن للولايات الأمريكية خيارا آخر إلا التحضير لقمع مظاهرات عامة ضد المصالح الرأسمالية لأقلية محدودة. هي مسألة توقعها "صامويل هانتينغتون" منذ 1957، في كتابه" جندي الدولة". حيث ذكرأن للجيش الأمريكي نزعة ليس لحماية الشعب أو التراب الأمريكي، و لا لحماية المصالح الاقتصادية متعددة الجنسيات.
و كما كانت عسكرة النظام الهتلري، الذي سمح لألمانيا بالنهوض بقوة من أزمة اقتصادية عميقة بجذب الرأسمال لا سيما الأمريكي، بنفس الشكل مارست الولايات الأمريكية عسكرة تضمن من خلالها للرأسماليين الأجانب بأنهم سيكونون في مأمن طالما يبقون على التراب الأمريكي. بشكل مواز، فان ابقاءالجيش في خدمة الرأسمال يفتح أسواق كانت في السابق مؤممة، ثم عرضيا،يسمح بضمان بقاء البلبلة و الرعب للقبول بنظام ما.
إن أخذنا مثلا سنوات 1930، ألمانيا الهتلرية جذبت إليها رؤوس المال الأمريكية مقابل الوعد بالرد العسكري على خطر البلشفيين. نفس الشيء سنة 1999، المجموعة الصناعية الكبيرة استثمرت في حرب كوسوفو بأمل أن ينجح الحلف الأطلسي في إخضاع و فتح الاقتصاد الاشتراكي الأوروبي. و هذا وفق نظرية الخوصصة في قطاعه العام الذي
استثمر فيه أرباب العمل الانجلوسكسونيين في غزو العراق عام 2003.
خوصصة تغنى بها بول بريمر III، الذي استفاد من إعانة الخبراء من أوروبا الشرقية الذين شاركوا في إبادة الاقتصاد الاشتراكي، مثل الرئيس البلغاري الأسبق "بيتر ستويانوف"، أو الوزير الأول الروسي الأسبق يغور غايدار [6] . المسألة التي أرقت مالكي " غرف الحرب" (war rooms ) في واشنطن هي اليوم معروفة بأي طريقة يمكنهم السيطرة بفعالية على سكان المستوطنات الاستراتيجية الجديدة.
المحافظون الجدد يعتبرون احتلال أفغانستان كنصر نحو تطلع لعودتها بخصوص الاستثمار: السيطرة على البلد تم بثمن بخص، بتفويض القتال إلى مقاتلين محليين لا يتقاضون رواتب جيدة، أحرى من نشر قوات الجيش الأمريكي برواتب كبيرة و مكافآت تنقـــّل. على العكس، في العراق صدام حسين اعـدّ بلده إلى حرب شوارع، واضعا مسبقا تركيبة انتفاضة و تمرد، ومشكلا حسب اللغة الاصطلاحية للجيش الأمريكي نفسه، " مضاد الدولة" (counterstate) [7] .
لتجنب الخطأ المرتكب في الفيتنام، أين خاض مكتب الاستعلامات المركزية عمليات حقيقية مضادة للتمرد و الثورة، إلى درجة متقدمة من الحرب، قرر البنتاجون إذن، قبالة خطورة المهمة، أن يمنح مهمة قمع التمرد إلى الجيش النظامي [8] . وفق منطق عسكري و بيروقراطي، كل الوسائل يجب أن تكون في خدمة الهدف الواضح. إذا، العديد من الإخفاقات جعلت البنتاجون يفكر في الحال التالي: أولا، ذلك الجانب الخاص بمصلحة الاستعلامات لتحييد الإطارات السياسية. بمعنى تفعيل عملية الكشف عن إطارات البعث الذين تم جمعهم من قـِبل أحمد الجلبي،الا أن ملفات هؤلاء لم يكن لها أدنى قيمة لأن حزب البعث ضاعف من بنيته تطلعا للتمرد.كما حاولوا جمع معلومات أكثر بعد السقوط السياسي للجلبي و بعد تفتيش بيته من قبل قوات التحالف الذين كانوا يشكون في نيته السليمة!. المخططون شهدوا بعد ذلك نصرا استراتيجيا مضادا للتمرد في مرحلته الأولى [9] : المهم في التركيبة السياسية و العسكرية للمقاومة باعتبارها مقاومة مشروعة بعد الغزو، استطاعت أن تحقق عمليات التسلل والاختراق لقوات الأمن العراقية المتعاونة ،و تجميع العراقيين للم في عمليات قاتلة من قوات التحالف. اليوم، بعد " غرنيكا" الخاصة بالفلوجة، ليس هنالك أدنى اعتقاد بأن يقبل الشعب العراقي بالاحتلال أو بنظام يقيمه المحتل.
هي إذن المبادرة المشبعة بالتناقضات التي صادق عليها البنتاجون من وراء الجدران: منح كتب إلى قوات العسكرية الاصطلاحية تساعدهم على الوقوف في وجه المقاومين العراقيين [10] . استـُرجعت العديد من العناصر النظرية المتراكمة في غضون الصراعات للعشريات السابقة، و بالخصوص تلك المتعلقة بالفيتنام، في محاولة مطابقتهم مع النصوص العراقية. هذا التحديد المجدد لدور الجيش الأمريكي، الذي عليه أن يغطي غياب قوة تعاون عراقية، هو في ذاته تناقض لأن الجنود الذين يقصفون المدن من الصعب عليهم أن يحظوا بثقة السكان. والحال انه باعتبار ضخامة و تنظيم المقاومة، فيتعلق الأمر قبل كل شيء بالحد من الخسائر الذي تسببت فيها
المراقبة العسكرية للسكان. ليس بالشيء السهل، لأن المقاومة العراقية نشيطة في كل البلاد، لكننا نجدها في مراحل ـ وفق المناطق و سكانهاـ تقوم بحرب مواقع ( المرحلة III) في الفلوجة أو الموصل و أن ثمة دفاع استراتيجي ( مرحلة I و هو ما يستثني العمليات المتفرقة، بالخصوص ضد قوات التحالف ) في بغداد. نظرية أصلية ل"ماو تسي تونغ"، تقول أن حرب الشوارع تتطور من مرحلة إلى أخرى بطريقة معينة، و أكثر حيوية في مختلف المراحل دفعة واحدة، وإن فعالية المقاومة المتزامنة، في مختلف لمراحل تشير إلى تطور في الصراع لصالحها.
عمل فعال لجمع المعلومات السياسية، مدعوما بعمليات تستهدف القوات الخاصة كوسيلة للعصيان المنتصر، القول أخيرا أن الحرب خاسرة بالنسبة للولايات الأمريكية.
علينا أن نستخلص نتائج قاتمة من هذه المسألة ، بالنظر إلى أن البنتاجون اختار إرهاب العراقيين بالقوة العسكرية للسيطرة بأي ثمن على ثاني احتياطي البترول في العالم، و على اقتصادها الوفير. حسرة كل الناخبين الأمريكيين لا تغير شيئا: نحن نعيش عملية إبادة حقيقية ضد شعب و بلد باسم الرأسمال و الثروات الباطنية .
ترجمه خصيصا لشبكة فولتير: ياسمينة صالح جميع الحقوق محفوظة 2004©
[1] " من يحكم العراق؟" بقلم تيري ميسون، فولتير 13 مايو 2004
[2] أنظر "« Economic "Armageddon" Predicted » ، بقلم بريت أريند، From the Wilderness ، 23نوفمبر 2004.
[3] " الكعب الأخيلي الأمريكي " بقلم ل.س. تريدو، فولتير، 4 أبريل 2003.
[4] أنظر « What is new in today’s imperialism ? »، بقلم بيتر هودس، " News and Letters "، 23 نوفمبر 2004.
[5] أنظر إلى مقال " ظلال تقرير شيني" بقلم أرتور لوبيك، فولتير، 30 مارس 2004. وجهة نظر غذتها التقارير العام لمكتب الاستعلامات المركزية معلنا عن انخفاض وشيك للإنتاج الإجمالي.
[6] " أهداف الحرب و النتيجة الاستراتيجية لضرب العراق" بقلم تيري ميسان، فولتير 6 أكتوبر 2003.
[7] أنظر إلى مقال " عملية العنقاء ( فنيكس)"، بقلم أرتور لوبيك، فولتير، 16 نوفمبر2004.
[8] أنظر مقال " نقص في المتعاونين، الولايات الأمريكية تضحي بأبنائها"، فولتير 15 نوفمبر 2004.
[9] نظرية "ماو" عن التمرد (الثورة) التي تبناها " فيتكونغ"ثم تبناها البعث في العراق، و تبين ثلاثة مراحل من التطور هذه الأخيرة: المرحلة الأولي الدفاع الاستراتيجي، المرحلة الثانية: المواجهة المفتوحة، و أخيرا المرحلة الثالثة: إنشاء فرق نظامية للقيام بالهجمات.