راول مارك جينار، أحد أهم المفكرين المهتمين بالنقاشات القانونية الفرنسية، سيصوت "لا" لمشروع الاتفاق الدستوري الأوروبي. كتب قائلا: حين يكون أهم شيء في الميثاق محلا للشك، فيجب مقاومته. بالنسبة إليه، مشروع الدستور الأوروبي المقترح لا ينسجم مع تطلعات المواطنين، بل يتخلى عن الغايات الكبرى للاتحاد. انه يكرس الليبرالية الجديدة، ويتنكر للقيم الأوروبية، و سيكون من الصعب تعديله.
1. يجب معارضة هذا الاتفاق الذي يعطيه البعض قوة الدستور، لأن الدستور عبارة عن صيغة محددة، واضحة، في متناول أكثر عدد من الناس.
يُـطلب منا قول "نعم" لنص متكون من 448 مادة لا يمكن استيعاب مدلولاتها الحقيقية إلا إذا قرأنا إضافة إليها 440 صفحة ملحقة بالنص.
يطلب منا قول "نعم" لنص غامض، لا يحدد جملة من التصورات مثل " مصلحة النفع الاقتصادي العام" أين تبدو بعض المواد متناقضة مع أخرى، نص لم يبسط لا الاتفاقيات الموجودة و لا المؤسسات المتواجدة.
أخيرا، يطلب منا قول "نعم" لنص فيه من التعقيد ما يجعله غير مفهوم. كيف بإمكاننا قول "نعم" لشيء لا نفهمه؟
2. هذا النص غير مقبول لأنه يتنكر لكل ما أنجز على مستوى الاتحاد الأوروبي قرابة 50 سنة، أي ما كان سببا لتواجد أوروبا و محركا لدستورها: الانسجام.
الأمل الأوروبي هو أولا أمل المساواة بين الشعوب: المساواة على مستوى الحياة، و الفرص. وهذا الاتفاق يتخلى عن معنى الانسجام بين الشعوب لصالح التنافس بينها، اذ الانسجام المراد تحقيقهن هو انسجام سيخضع إلى قواعد السوق بالدرجة الأولى و ليس إلى الإرادة المشتركة للدول الأعضاء ( المادة 209).
3.هذا النص غير مقبول، لأنه ليس دستورا بل عقيدة لليبرالية الجديدة.
هذا النص يحد من الوظائف الضرورية للدول إلى وظائف أمنية ( المادة5).
هذا النص يخضع كل السياسات الاجتماعية و البيئية إلى قانون السوق ـ إلى اقتصاد السوق الذي لم يعد ذلك الاقتصاد المنضبط الذي مارسناه منذ الاستقلال و الذي يتماشى مع مستوى كبير من الضمان الاجتماعي، لكن اقتصاد سوق يحقق طموحات المنظمة الدولية للتجارة (OMC)، اقتصاد سوق تكون فيه " المنافسة حرة و ليست مشوهة" ( المادة3).
هذا الدستور يكرس مبدأ " كل السلطات تؤدي إلى المال".
4.ما يميز هذا " الاتفاق المشكل للدستور الأوروبي" ينكـر القيم التي ولدت في أوروبا:
– انه في أوربا كانت ولادة مبدأ العلمانية. والدستور المقترح لا يؤكد على هذا، بل يجنح إلى تعزيز دور الأديان و دعم أماكن العبادة ماديا. انه يسمح بنشر المظاهر الدينية في الأجهزة الحكومية، الأماكن والمؤسسات العمومية.
– في أوروبا تم اقتلاع ـ وبثمن باهظ! ـ مبدأ :" كل السلطات نابعة من الشعب". هذا المبدأ الأساسي للديمقراطية ليس مكتوبا ولا منصوصا عليه في هذا النص المقترح الذي يحمل شكل الدستور.
– في أوروبا نقيم الصفات الأساسية للديمقراطية: الفصل بين السلطات و مراقبة برلمانية للنظام. النص الذي يطلب منا القبول به يؤسس غموض السلطات بين التنفيذية و التشريعية و يخضع للدستور ما نسميه منذ قرابة الخمسين سنة بال
" الضعف الديمقراطي الأوروبي" ـ بمعنى أن اللجنة ( غير المنحدرة من الاقتراع الكلي) تحتفظ بالاحتكار لكل المبادرات وأن المؤسسة العالية للقرار الأوروبي ـ مجلس الوزراء ـ ليست متطابقة أمام أحد مع خياراته السياسية، لا أمامنا، و لا أمام أولئك الذين ننتخبهم في البرلمان الأوروبي.
– في أوروبا، ونتيجة صراعات سياسية و اجتماعية حادة، تم انتزاع الحقوق الجماعية، الحقوق الاجتماعية التي تنظم التضامن في مجتمع الحريات.
– ما كرسه الدستور و القانون الفرنسي ـ و هو ما يوجد أيضا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تم صياغته عموما من قبل الأوروبيين ـ الحق في التعليم، الحق في الصحة، الحق في السكن، الحد الأدنى من الحقوق، الحق في العمل، في راتب تقاعد) يبدو غائبا عن النص الذي يطلب منا القبول به. بغض النظر عن الحق في التعليم، لا يوجد أيا من تلك الحقوق في هذا النص الهجين الذي يبالغ في الحديث عن
" الحق في العمل" بأن يكتفي " بالاعتراف و الاحترام" بما يوجد دون أن يستعيده لحسابه.
– في أوروبا تم تأسيس الخدمات العمومية، هذه الأدوات التي تمنح للسلطات العامة المحلية و القومية، إمكانية تجسيد مصالح المواطنين التي يستفيد منها الجميع. الدستور الذي يراد فرضه علينا، يتنكر لمفهوم الخدمة الاجتماعية كحق من حقوق المواطنة. إنه يتنكر للمصالح العمومية ـ التي لا يمكن إخضاعها لقواعد المردودية ومصالح المؤسسات الاقتصادية الخاضعة لقوانين التنافس.
– أخيرا، انه في أوروبا حيث تم التأسيس لمفهوم قانون دولي قائم على أساس قوة الحق بدل حق القوة. والدستور الذي يراد فرضه علينا يُخضع السياسة الخارجية و يخضع دفاع أوروبا للحلف الأطلنطي، و الذي صيغ بشكل واضح بأنه " أساس الدفاع المشترك و الإلحاح للقيام بها." فمن الذي سيضبط سياسة الحلف الأطلسي؟
رئيس الولايات المتحدة الأمريكية طبعا!
5-أخيرا، هذا الدستور غير مقبول لأنه غير قابل للتغيير.
ب25 عضو اليوم، إلى 27 عضو بعد عامين، دول الاتحاد تسيرها حكومات ليبرالية من اليمين أو اليسار. أنصار هذا النص المقترح يقولون لنا أنهم يريدون الإجماع كي لا يكون ثمة أي تعديلات في المجال الضريبي، في المجال الاجتماعي، في المجال البيئي، هذا كله مع دول حديثة في الاتحاد تعتبر أن الامتيازات المقدمة للانضمام إلى الاتحاد، مشجعة وكافية وحدها على الانضمام إلى التصديق بإجماع على دستور سيفرض ليس علينا فقط، لكن على أطفالنا و أحفادنا.
لنتذكر سويا تحذيرات ميرابو: "الرجال يقضون النصف من حياتهم في تصفيد القيود و النصف الآخر في الرثاء لأنهم يحملون تلك القيود."
القبول بالدستور المقترح، يعني التنازل عن الأجيال القادمة. يعني القبول بالقيود التي كسرها الأولون.
رفض هذا النص، يعني الاضطرار الى تغليب مصلحة العمل على المهن الاقتصادية،و رفض هذا الدستور لا يعني إلغاءا لأوروبا. لن يكون ثمة فراغ، و لا خراب: لقد استمرت اتفاقية روما حتى عام 1957، ثم تلاها العديد من الاتفاقيات المكملة والمعدلة.
هذا النص ليس أوربا نفسها، إنه مجرد نص سيء يعكس رؤية غير سليمة لأوروبا الخارج عن أوروبا الداخل.
نحن لسنا لا مصرفيين ولا رجال أعمال وبنوك؛ لسنا لا تكنوقراطيين و لا رجال سياسة. نحن الشعب.
رفض الدستور المقترح، يعني للحكومات و للمرشحين أننا أوروبا أوروبية حيث تسود قيم التضامن الاجتماعي في ظل احترام الحريات، وحيث تفرض المساواة في إطار التعددية، حيث يعيش الإنسان في تناغم مع الطبيعة، حيث يكون التعامل مع بقية شعوب العالم قاطعا بعيدا عن كل أشكال الإمبريالية و الكولونيالية الجديدة.
نحن في مواجهة أهم الخيارات التي طرحت أمامنا منذ عام 1945: إما الاستسلام أو المقاومة. حين يكون أهم شيء في الحياة محل شك، يجب تعلم قول "لا".