من منطلق خبرته الكبيرة بما يعرف بمنطقة التبادل التجاري الحر بالأمريكتين، يحلل الخبير القانوني على هذه الأسطر أبعاد الدستور الأوروبي المقترح، ويصوره على أنه مجرد عملية تحرير واسعة النطاق للاقتصاد الأوروبي تحت أقنعة قانونية وإدارية، من أجل تسويغه للرأي العام. وبعد ملاحظته لغياب مجلس نيابي منتخب ن يعرج أيضا على الخلط في المفاهيم بين الحق في الانتخاب، والحق في المبادرة الشعبية. ثم ينهي تحاليله حول حجم الحقوق الاجتماعية المعترف بها في هذا الدستور ونتائج الرفض الفرنسي لهذا النص المقترح.
مشروع النص المقترح كدستور لأوروبا قد تم إعداده من طرف السيد
جيسكار فاليري ديستان مع بعض الشخصيات المناصرة لتوجهاته. وكانت المصادقة الأخيرة قد تمت من قبل رؤساء الدول الأعضاء والحكومات. فهذا النص لم يحرر من طرف جمعية وطنية منتخبة ديمقراطيا لأجل هذا الغرض. والمشاركة الوحيدة المحتملة للشعوب ستكون في حال إمكانية إجراء اقتراعات شعبية للإدلاء بنعم أو لا للنص المقترح. في هذا النص لا نجد ولا مرة الإشارة إلى ما يشكل أساس القانون: "الشعب". وإذا صودق على المشروع المقترح، فانه لا يمكن تعديله إلا بإجماع كامل من طرف الدول الأعضاء (مادة: 4 – 443، فقرة 3 ) وطبعا دون استشارة شعبية.
المشروع المقترح يطرح بعض المفاهيم الجديدة – على سبيل المثال – صلاحيات أقوى للبرلمان، لكن المبادرة التشريعية تبقى دوما في يد اللجنة الأوروبية، بمعنى أن البرلمان المحلي قد يتدخل لتعديل أو تصحيح تشريع ما في حالة ما إذا كان هذا التشريع طبعا داخلي. ونلمس هنا الامتياز المعطى من طرف المشروع المقترح للأجهزة التنفيذية الممثلة في المجلس الأوروبي والمكانة الهامة المعطاة للأجهزة الأقل تمثيلا والأقل خضوعا للمراقبة والتي تشكل في مجملها المفتشية الأوروبية، مثل البنك المركزي، القضاء الأوروبي (الخاضعين لتأثير وضغوط لوبي رجال الأعمال وكبريات الشركات متعددة الجنسية )، وهذا الامتياز يعكس التسلط الليبرالي الذي يحكم قبضته اليوم على الاتحاد الأوروبي.
وبالنظر إلى هندسة صناعة القرار الحالية، فان اتخاذ القرار المشترك بين البرلمان الأوروبي ومجلس الوزراء آخذ في الاتساع. هذه السلطة التشريعية التي كانت دائما مقتسمة بين هذين الجهازين. وستتضاعف مجالات أخذ القرار المشترك من 40 إلى 69 من مجموع ال 90، وذلك بإدماج ميدان التعاون بين أجهزة الشرطة والأجهزة القضائية (3 – 266 إلى الصفحة 277 ). غير أن مجلس الوزراء يبقى السلطة التشريعية الأخيرة التي يعمل بقراراتها باعتباره الجهاز الوحيد الذي لا ترد قراراته، وليست تلك التي تصدر عن البرلمان. أما في فرنسا مثلا، فانه البرلمان الذي له الكلمة الأخيرة في الشئون المطروحة.
عندما ننظر إلى الفقرة (3 – 396 ) ن والتي تحدد الآلية القانونية، فهي تشير إلى إن المفتشية الأوروبية من صلاحياتها اقتراح القوانين واللوائح. وحتى يصادق على هذه اللوائح، فيجب أن تصادق من قبل الأغلبية في مجلس الوزراء وفي البرلمان أيضا. والبرلمان يحق له المصادقة على قانون ما، أو رفضه بأغلبية كبيرة من البرلمانيين ( 3 – 396 – 7 ). ومجلس الوزراء يمكنه أن يصادق على موقف البرلمان أو لا يصادق. وفي حالة رفض قانون ما من طرف البرلمان، يبعث مجلس الوزراء بموقفه إلى البرلمان وإذا اقر مجلس الوزراء موقف المجلس، فتتم المصادقة على القوانين المقترحة. أما إذا رفض البرلمان موقف مجلس الوزراء، فالمشروع المقترح مؤهل للرفض. وإذا كانت الحالة حالة تعديلات من طرف البرلمان، فانه لن يصادق عليها إلا بإجماع تام من طرف مجلس الوزراء إذا ما لم تصادق عليه المفتشية الأوروبية.
الحق في الاستفتاء أم الحق في المبادرة الشعبية؟
يعترف المناصرون للدستور الأوروبي المقترح، وكذا عناصر ال (سي اف دي تي ) أن: " الدستور الجديد يوسع من هامش الديمقراطية في أوروبا وذلك باقتراحه ولأول مرة على المستوى الأوروبي آلية ديمقراطية فعالة وذلك في المادة 1 – 47: يحق لعدد من المواطنين الأوروبيين يبلغ عددهم على الأقل 1مليون من أصل 450
مليون أوروبي، أن يستدعوا المفتشية الأوروبية في إطار مهامها الموكلة بها، بأن تتبنى أو تعدل قانونا ما يرى المواطنون أنه من الضروري التحرك لتجسيده داخل الاتحاد
."
أولا ن تجدر الإشارة إلى أن حق الاستفتاء كان واردا سلفا في القانون الأوروبي المعمول به سابقا، وقد مورس هذا الحق منذ عام 1963، غير انه كان محصورا على البرلمانيين الأوروبيين. وبموجب اتفاق داخلي يوم 12 أبريل 1989 بين البرلمان الأوروبي، مجلس الوزراء والمفتشية الأوروبية. تم تجسيد هذا الحق حينها بشكل صوري لإعطاء ضمانات بشأن الاستفتاءات المستقبلية. وحق الاستفتاء تم إدراجه بالدستور المقترح عام 1992ن عن طريق اتفاقية ماستريخت، كحق من الحقوق المعترف بها لمواطني الاتحاد، ويتم العمل بهذا الحق بمعدل 500 إلى 1000 تصويت خلال السنة.
والمناصرون للدستور المقترح، لا يميزون بين الحق في الاستفتاء، وبين المبادرة الشعبية. لأن عن طريق الاستفتاء، يمكن لفرد أو مجموعة أن يرسلوا إلى الجهاز الإداري بطلب ما، وهذا الأخير يمكنه رفض أو قبول هذا الطلب. أما عن طريق المبادرة الشعبية، فانه يمكن لشخص أو مجموعة صغيرة أن تطالب الجهاز الحكومي بطلب أو تعديل ما للقوانين (مشروع قانون، استدعاء أو الدعوة إلى استفتاء )ن وفي هذه الحالة الجهاز الحكومي ملزم بالانصياع لهذا الطلب.
والحق في الاستفتاء موجود أصلا حتى في النظم الموصوفة بأنها أقل ديمقراطية، أما حرية المبادرة الشعبية ن فهي من مكاسب ديمقراطية الشعوب، و التي تشير إليها كثير من الدساتير الوطنية ( الدستور الإيطالي، السويسري، الكولومبي، الفنزويلي.... الخ )، والذي لا يشار إليه طبعا على صفحات الدستور الأوروبي المقترح. ورغم هذا، فان يومية عريقة مثل يومية العالم الفرنسية "لوموند"، فهي تخلط كثيرا بين المفهومين، على صفحاتها على الإنترنت، عندما حاولت أن تفهم المواطنين أن نسبة مليون مواطن أوروبي يمكنهم الضغط على المفتشية الأوروبية لفرض أو حذف قانون ما....وهذا طبعا غير صحيح.
مديرية ال سي اف دي تي، كتبت أيضا:
" إن هذه الحقوق، تثري مجمل الحقوق الاجتماعية المدونة في ميثاق الحقوق الأساسية المقررة في ديسمبر 2000، والتي لم تدمج في اتفاقية نيس. وبدمج هذه الحقوق في الدستور الأوروبي، فإنها تكتسب صفة القوانين الملزمة. والمواطنون بالتالي يمكنهم اللجوء إلى القضاء الأوروبي مباشرة ".
في الأربعة أسطر السابقة، نقرأ على الأقل ثلاث مغالطات:
1 – ميثاق الحقوق الأساسية تم إدماجه في اتفاقية نيس، وبسبب معارضة بريطانيا لم يمكن من إعطاء صفة الإلزامية لهذه الحقوق.
2 – الحقوق الاجتماعية المشار إليها في الدستور المقترح، تكتسب صفة إلزامية جد محدودة، بحكم أنها لا تطبق إلا في إطار القانون الأوروبي. على سبيل المثال، إذا أراد عامل فرنسي أو بولوني استدعاء القضاء الأوروبي للنظر في مدة شغله الأسبوعية تجاوز ال 60 ساعة، فان هذا لن يجدي معه في شيء، لأنه وحسب المادة 2 – 91، من الدستور، فان مدة العمل الأسبوعية يجب أن تكون محدودة، لكن إلى أي حد لا ندري! و عليه فان «حق" تعديل عدد ساعات العامل، طبعا وبداهة هي من صلاحيات " الدستور "، لأنه فعلا عدد ساعات عمل العامل غير محدودة إلى 60 ساعة ن لكنها محدودة «خصيصا" إلى 60 ساعة!.
3 – المواطنون الأوروبيون لم ينتظروا صدور الدستور الأوروبي حتى يباشروا استدعاءهم للقضاء الأوروبي، فذلك قد كان عادة اجتماعية متعارف عليها منذ ما يزيد على نصف القرن. وتسمح الطعون المقدمة أمام القضاء الأوروبي، للدول الأعضاء، المجلس الأوروبي، المفتشية الأوروبية وتحت ظروف معينة ن تسمح للبرلمان الأوروبي من طلب إلغاء بعض أو كل الإجراءات التي من شأنها المساس بالبرلمانيين سواء فرديا أو جماعيا. وفي هذا السياق، فان الدستور الأوروبي لم يزد على أن استلهم روح المادة 173 من اتفاقية روما لعام 1957: " كل شخص مادي أو معنوي يمكنه أن يتمتع بحق الطعن في القوانين التي تعنيه بشكل مباشر وشخصي، وضد كل القرارات التي تمس مصلحته وان كانت قد قصد بها جهة أخرى".
بالمقارنة مع المادة (3 – 365 )، الفقرة الرابعة من الدستور المقترح: " كل شخص مادي أو معنويين وفي إطار الفقرات 1 و 2، يمكنه الطعن في القرارات والإجراءات التي قد تمسه بشكل مباشر وفردي، وكذلك ضد كل القرارات التي تمس مصلحته وان كانت قد قصد بها جهة أخرى".
مسألة الوزن النسبي لفرنسا أمام محاكم القضاء الأوروبي
وعندما تؤاخذ بعض الحكومات على بعض سياساتها بشأن الخصخصة، فهي تجيب بأنها " كانت مجبرة من طرف بروكسيل " (مقر المفتشية الأوروبية ). ومن أجل تبرير سياساتها الاقتصادية الليبرالية المجحفة، فان الحكومات الأوروبية تجيب دوما أن الخطأ "يعود إلى الدستور الأوروبي، وليس إلى سياساتها".
وان المكسب الايجابي الذي حققه هذا الدستور، هو انه أعاد الجدل حول مضامينه بين أطياف الشعوب الأوروبية، كما أعاد التأكيد على علامات الاستفهام على المواضيع السرية الحساسة في سياسات الدول القوية بالاتحاد وتفاعلاتها. وقد ساهم هذا كله في إتاحة الفرصة للشعوب الأوروبية لفهم مزيد من أبعاد ما يحاك من وراء هذا الدستور وعلى حساب مصيرهم ومصير أجيالها القادمة.
والمناصرون للدستور لا يعتمدون على أدلة عقلية مقنعة، إنما يراهنون على عامل تخويف الرأي العام من مغبة رفض الدستور. فهم يؤكدون أنه في حالة الرفض الشعبي الفرنسي للدستور، فان ذلك سيهمش من فرنسا ودورها بالاتحاد، الأمر الذي يشكل تقهقرا في مسيرة أوروبا حسب رؤيتهم طبعا وبالتالي التوقف الطويل لمسيرة الدستور الأوروبي. كما أنهم يراهنون على أن عدد المقاعد المخولة إلى فرنسا في حالة القبول الفرنسي للدستور، سيرتفع بمعدل 50 %.
لنتأمل الوقائع
المادة 3 من بروتوكول "نيس" المتعلق بتوسيع رقعة الاتحاد الأوروبي، هذا البروتوكول يؤسس لأسلوبين في الاقتراع لفرنسا مثلا. الأول للاقتراع وهو أسلوب أغلبية الأصوات بين الدول وفق نظام نقط، حيث تملك فيه فرنسا 29 نقطة من أصل 237، بمعنى نسبة 12.23% (مثل ألمانيا ). أما الأسلوب الثاني فهو الاقتراع عن الدول حيث تملك فيه فرنسا نسبة 1/25 من الأصوات.
أما الإعلان المتعلق بتوسيع رقعة الاتحاد الأوروبي رقم 20 والمقرر بمدينة نيس، يقرر أنه بالنسبة لأوروبا بعدد 27 دولة، فان لفرنسا 29 نقطة من أصل 345، بمعنى نسبة 8.40%.
والمشروع المقترح يحتفظ بما يسمى "التصويت المزدوج " (المادة 1 – 25 )، مع أسلوب الاقتراع بين الدول، كما يجسد الاقتراع المتناسب مع الكثافة السكانية. ففرنسا مع كثافة سكانية تقدر ب60 مليون نسمة من أصل 460 مليون أوروبيين فهي بذلك تملك نسبة 13.04% من الأصوات. وعليه ففرنسا في الحقيقة تستفيد من ناحية الاقتراع على مستوى المجس الأوروبي ومجلس الوزراء بنسبة 50%، لكن من ناحية التصويت المزدوج بين الدول، فهي لن تملك أكثر من 1/25 من الأصوات.