لا شك أن هناك عداءً تاريخياً بين الفكر العربي والإسلامي التقليدي من جهة والمذهب الفردي من جهة أخرى. وأقصد بذلك "الفردية" التي تقوم على تقديس الفرد بوصفه كائناً مفكراً وصاحب إرادة وقيمة كبرى بما يترتب على ذلك من إقرار بخاصتين متلازمتين: الاستقلالية والوكالة الحرة.
ومثل هذا التصوّر هو الكامن خلف مفهوم الانسان كصاحب ملكية خاصة، كفاعل في المجال الاجتماعي والاقتصادي، وكمواطن يحق له المشاركة في إدارة الحياة السياسية أو إنتداب من ينوب عنه في ذلك، علي ما هو شائع في البلدان ذات النظم الديموقراطية الليبرالية. لكن مثل هذا الفرد لا مجال لوجوده، بل لا معني لوجوده الاّ في مجتمع أفراد يأخذون بمثل هذا التعريف للإنسان. ومثل هذا المجتمع غير موجود في العالم العربي. بعبارة أخرى فإن الفردية تكاد تكون غائبة في المجتمعات العربية. وقد لخص الشاعر الجاهلي دريد بن الصمة هذا الوضع المستمر حتى الآن في بيته الشهير: (وما أنا إلا من غزية إن غزت غزيت وإن ترشد غزية أرشد). وقد استغل الحاكم عبر العصور هذا الشعور القطيعي لدى الإنسان العربي لبسط حكمه الشمولي الذي قضى على أي أمل في الاستقلال الفردي أو ظهور مجتمعات ديموقراطية ترتكز على الإرادة الحرة لمواطنيها.
وبما أن السياسة في بلداننا العربية،على عكس كل أمم الأرض، تـُعتبر بالمفهوم الماركسي، البناء التحتي لكل مظاهر الحياة الأخرى التي يمكن أن نعتبرها في هذه الحالة البناء الفوقي، كالإعلام والثقافة والاجتماع، فإن الحقل الإعلامي يكاد يكون أكثر الحقول تاثراً بالنظرة الشمولية لأنظمة الحكم في بلداننا المنزوعة من الإنسانية أو الفردية بمفهومها الليبرالي. لهذا السبب تحديداً نرى أن وسائل الإعلام العربية لم تهتم منذ نشأتها إلا بالعموميات والقضايا الكبرى المزعومة متجاهلة كل ما يهم الفرد العربي كإنسان قائم بذاته له استقلاليته وكينونته الخاصة ومتطلباته واهتماماته واحتياجاته الفردية. وقد ساعد وسائل الإعلام العربية على تكريس ثقافة إعلامية عمومية وجود بعض القضايا الكبرى كقضية فلسطين وبعض قضايا التحرر الأخرى التي استغلتها الأنظمة العربية الحاكمة على مدى أكثر من نصف قرن لتحويل أنظار الشعوب عن قضاياها الداخلية الملحة كالتنمية البشرية والإنسانية بما تنطوي عليه من تربية وتعليم وصحة ورعاية اجتماعية ورفاه وإعلام وغيرها من الأمور الحياتية.
لقد نجحت بعض الأنظمة العربية الإسلاموية والقومية في محاربة النزعة الفردية في مجتمعاتها بحجة تحقيق العالم العربي أو الإسلامي الكبير ودمج الأمة من محيطها إلى خليجها وغير ذلك من الشعارات الفارغة التي لم تكن سوى غطاء لأهداف سلطوية. وبالتالي لم تتحقق الوحدة الكبرى التي رهنوا لها الشعوب لعقود وعقود ولم تتحقق شخصية الإنسان العربي على الطريقة الإنسانية الحديثة بوصفه كائناً مستقلاً محترماً يتمتع بكل مزايا المواطنة التي تنص عليها المواثيق والدساتير المتطورة. لقد ظل الفرد في قاموس الإعلام العربي مجرد تفصيل مهمل لا قيمة له في الخطاب الإعلامي الشمولي الذي طمس إنسانية الفرد لصالح «القضايا الكبرى» بين قوسين طبعاً. وعلى الرغم من انفتاح الإنسان العربي على الإعلام الغربي القائم على تقديس الفرد وجعله محور الاهتمام الإعلامي إلا أن وسائل الإعلام العربية الرسمية خاصة لم تجار مثيلاتها الغربية لأنها مازالت حتى الآن مجرد أبواق لأنظمة كليانية ما لبثت تجتر "القضايا الكبرى" وتتاجر بها وترمي الإنسان جانباً بوصفه نكرة ليست ذات قيمة مع العلم أن المجتمعات القوية لم تتقدم إلا بإنسان محترم مكرّم قوي ذي أهمية وخصوصية.
لقد أصبت بصدمة كبرى عندما وصلت إلى بريطانيا لأول مرة قبل أكثر من عشرين عاماً. فأنا قادم من عالم عربي يبدأ نشراته الأخبارية في الإذاعة والتلفزيون إما بأخبار سيادته وجلالته وفخامته وسعادته وصولاته وجولاته واستقبالاته "الكبرى" أو بأنباء التطورات في الأراضي الفلسطينية المحتلة أو القضايا العالمية العامة. وقد كنت أظن أنني سأستمع وسأشاهد وساقرأ أخباراً بنفس الأهمية والضخامة في وسائل الإعلام البريطانية. لكنني كنت مخطئاً تماماً لا بل مندهشاً إن لم نقل مصعوقاً. فنشرة الأخبار الرئيسية في التلفزيون البريطاني بكل قنواته الحكومية والخاصة تبدأ بخبر عن طفل أنجليزي ضاع في إحدى الحدائق العامة ولم يعثر أحد على اثر له حتى الآن. وتتضمن تفاصيل الخبر جهود الشرطة وسكان الحي في عملية البحث عن الطفل المفقود. وفي الأيام التالية قد يبدأون نشراتهم الإخبارية بخبر حريق في إحدى المناطق أو اعتداء على إحدى الفتيات أو ازدحام في أحد الطرقات أو حادث سير أو موت عجوز بسبب البرد أو قيام مظاهرة للمطالبة بتوسيع حديقة عامة كي يكون فيها مجال أكبر للكلاب كي تلعب وتلهو أو تطورات إضراب في إحدى المؤسسات للمطالبة برفع الإجور أو انحراف قطار عن مساره أو حدوث عاصفة ثلجية في منطقة ما أو نفوق عدد من الأبقار المصابة بمرض جنون البقر إلى ما هنالك من الأخبار العادية.
ونظراً لتربيتي الشمولية فقد كنت أشمئز كثيراً من التركيز الإعلامي في بريطانيا على هذه الأمور التي كنت اعتبرها سخيفة ومبتذلة. لماذا؟ لأنهم علمونا في بلداننا بأن لا نهتم بالشؤون التي تهم الإنسان العادي، فهذه في مفهومنا قضايا ثانوية سخيفة لا تستحق الذكر والاهتمام، وكل من يهتم بها فهو ملعون مطعون وعميل للإمبريالية والاستعمار والصهيونية وخائن للثوابت الوطنية والقومية وجدير بالفصل من الحزب القومي. وكنت أتساءل كثيراً بنوع من القرف: ما أسخف هؤلاء الانجليز، أليس لديهم أخبار أهم من أخبار المزارعين المضربين أو المدرسين المطالبين برفع أجورهم أو صبي خرج من بيته ولم يعد (مع الاعتذار من ليلى علوي ويحيى الفخراني)؟ أليس هناك قضايا أهم ألف مرة من قضية فتاة مخطوفة أو ممثل تهرب من دفع الضرائب أو مجموعة من العمال فقدوا وظائفهم في أحد المصانع البريطانية؟ وكنت أتساءل: لماذا لا تركز وسائل الإعلام البريطانية على قضايا كبرى عامة بدلاً من إبراز قضايا الناس البسطاء العادية؟ لماذا لا تهتم بالشأن العام أكثر من الخاص؟ لقد بقيت لفترة طويلة معتقداً أنني على حق وأن وسائل الإعلام البريطانية "السخيفة" على باطل حتى بدأت أتعرف على الأسباب الكامنة وراء تركيز الخطاب الإعلامي في الدول الديموقراطية على الأمور والقضايا الفردية والإنسانية.
لم يكن إبراز الشؤون الإنسانية الخاصة في نشرات الأخبار الإذاعية والتلفزيونية في بريطانيا لأن القائمين على وسائل الإعلام أناس سخفاء لا يقدرون أهمية الخبر الرئيسي بل لأن أمور المواطنين الخاصة هي أكثر أهمية لهم ألف مرة من كل الشعارات والقضايا الكبرى وذلك طبعاً عملاً بالمذهب الليبرالي القائم على الفردية والشان الخاص والاهتمام بالإنسان واحتياجاته ومتطلباته وهمومه وتوجهاته البشرية. إن إعلامهم يركز على محنة طفل ضائع لأن للإنسان قيمة وأهمية في ناموسهم لا بل هو أهم شيء في مجتمعهم، فهو أهم من أخبار سياسات الدولة الكبرى وعلاقاتها الخارجية ومخططاتها الاستراتيجية. وكم كنت أتذكر بعض الدول العربية التي كان زعماؤها يتفاخرون ليل نهار بانجازاتهم «العظيمة» قاب قوسين على صعيد السياسة الخارجية والاستراتيجية المزعومة بينما كان مواطنهم في الداخل يعاني الأمرّين اقتصادياً ومعاشياً وصحياً وتربوياً. آه كم ضحكوا علينا «ببطولاتهم الخارجية» وأهملوا هموم الإنسان المسحوق على كل صعيد في الداخل. فكان إعلامهم يخصص الجزء الأكبر للحديث عن صولات القائد وجولاته الخارجية ويتجاهل مشاكل الناس ومصائبهم داخل أسوار الوطن وكأنها بلا أهمية أو أي قيمة.
أما آن الأوان أن يخرج الإعلام العربي من شرنقة "القضايا الكبرى" ويلتفت إلى قضايا الناس بتفاصيلها الصغيرة؟ لقد مل الإنسان العربي من هذا الإعلام المنغمس في الأمور السياسية العامة وأصبح يتوق إلى إعلام يتناول همومه اليومية الخاصة. فعالمنا العربي يغص بالمشاكل والقضايا الإنسانية المهملة إعلامياً، فلا عيب في التركيز على فضح الروتين الإداري وتلوث المياه وموت الألاف من شرب مياه ممزوجة بالنفايات وبقايا الأسمدة الكيماوية وأزمة المواد الغذائية وتدهور الخدمات في المستشفيات وموت مئات النساء على أيدي أطباء توليد بلا ضمير ولا أخلاق وفساد صغار الموظفين وفضح البلديات والقائمين عليها في بعض الدول العربية ومشاكل المدرسين والطلبة والأجور وغلاء الأسعار والبطالة وفضائح شرطة المرور التي يمكن أن تشتري أكبر واحد فيها بنصف دولار مقابل سماحه لك بأن تنتهك كل قوانين السير والمرور. ما أحوجنا لإعلام يركز على قضايا البيئة والازدحام السكاني والتنكيل اليومي بالمواطن المسكين الذي يواجه ألف عقبة وعقبة قبل أن ينجز أبسط معاملة. هل سنعيش لنشاهد نشرة أخبار عربية يكون فيها الخبر الأول عن اختطاف سائق عربي في العراق أو اختفاء مواطن في ظروف غامضة. أم أن أخبار المواطنين أسخف من أن يتناولها إعلامنا؟ لقد شبعنا من أخبار الاستعمار والإمبريالية والصهيونية والتحرر والسياسات الخارجية "العملاقة" والمشاريع الـُهلامية الفضفاضة. ليتنا نوجه وسائل إعلامنا من أجل خدمة الإنسان العادي واحترامه وتحريره من الظلم والحيف الواقع عليه من أولئك الذين تلاعبوا بإعلامنا وسخرّوه لقضايا كنا نعتقد أنه كبرى فإذا بها للضحك على ذقون الجماهير وإلهائهم بها عن همومهم وقضاياهم الإنسانية الخاصة التي أهملها معظم أنظمتنا «القومية». فلننزل بوسائل إعلامنا من عليائها المصطنعة والكاذبة إلى حضيض المجتمع حيث المشاكل والقضايا الحقيقية والجوهرية أو ما أسماها مكسيم غوركي في مسرحيته الشهيرة«الأعماق السحيقة».
لقد آن الأوان لأن نؤنسن الإعلام العربي بحيث يصبح أكثر اهتماماً بالإنسان منه بالسياسات والقضايا العامة. لقد حان الوقت لأن نبدأ من القاعدة إلى القمة وليس العكس وهو ما يفعله الإعلام العربي منذ انطلاقته. علينا أن نصحح مسار إعلامنا بقلبه رأساً على عقب. وصدقوني عندما نعالج همومنا ومشاكلنا الصغرى فإن «قضايانا الكبرى» ستنحل بشكل اوتوماتيكي، فالإنسان المهمّش والمهمل لا يستطيع أن يتصدى للشؤون العظمى ما لم يكن قد تخلص من همومه الصغرى التي رسمها «مثلث ماسلو» الشهير. فهل يصبح إعلامنا في خدمة الإنسان؟ ألسنا بحاجة إلى أنسنة الإعلام العربي؟ أم علينا أولاً أن نؤنسن أنظمتنا السياسية منزوعة الإنسانية من خلال دمقرطتها، والباقي يأتي تباعاً؟