في ضوء الحديث المتواتر والمتزايد عن “مواسم” التغيير الآتية من دمشق وعلى وقع زخم التسريبات الاعلامية سواء تلك “القليلة”، المعلومة المصدر او الاخرى الكثيرة، والكثيرة جدا المغفلة المصدر، او ذات الاسماء الغير مكشوفة...! ثمة سؤال بسيط ومختصر يدفع بنفسه الى واجهة الحدث، ليمزق الستارة الهشة التي يراد لها ان تغطي هذه الهيصة، وهو، هل يستطيع النظام السوري ان يقوم بمبادرة انفتاحية خلاقة على الداخل السوري، ويندرج تاليا في مسار سياسات جديدة مخالفة: للثقافة والقيم التي تربى عليها، وللغايات التي سعى اليها؟ وما اثر ذلك على التوازنات التي يستند اليها النظام والقوى التي يخدمها؟ “...”.
وللاجابة عن السؤال المتعلق بقدرة النظام على التغيير، لا بد من تحديد طبيعة النظام الحاكم في سوريا، فهو حسب التصنيفات الحديثة للانظمة السياسية، خليط من نظام عسكري، ونظام تعبوي شمولي، فهو نظام عسكري بحيث يعتبر العسكر الفئة الاساسية المسيطرة، كما يتصف بالانغلاق والتحكم، وهو شعبوي تعبوي لاستناده الى قاعدة الحزب الوحيد او المسيطر، الذي يرتكز بشكل اساسي على الايديولوجيا القومية، ويعمد الى التأكيد المستمر على صراع الامة مع القوى المعادية. اما من حيث الممارسة السياسية، فيتسم من الناحية العملية بالانتقائية، وتميل القيادة لأن تأخذ الصفة الشخصية، حيث يُرى ظل الاب القائد والاب الموجد واضحا في كل المؤسسات، كما تتصف علاقته بالشعب بنوع من الوصاية، لذا فان التحدي الاساسي لهذا النوع من الانظمة يتجسد في عملية انتقال السلطة من القائد الى الحزب والحكومة، مما قد ينتج مخاطر تدميرية لها من طريق الانقلابات العسكرية.
بناء على هذا التحديد، وخاصة لجهة المخاطر التي قد يتعرض لها النظام الحاكم جراء اي خطوة الى الامام، فانه لا يمكن توقع ان يكون التغيير كبيرا، ذلك ان القيم المؤسسة لثقافة النظام، قيم غير مرنة، ومن الصعوبة بمكان تليينها بدرجة كبيرة، اللهم سوى بعض التكييفات في المجال الاقتصادي، والتي لا تتعدى كونها نوعا من الاصلاح للاوضاع السيئة التي نتجت عن الداخل العسكري، كالتضخم المالي المتصاعد وعدم الفاعلية الاقتصادية والفساد السياسي، فضلا عن بعض التوجهات السياسية التي يمكن وضعها في اطار التطوير داخل اطار القيم ذاتها، وليس الانقلاب عليها.
من جهة اخرى ثمة عوائق بنيوية، من داخل بنية النظام نفسه، امام اي محاولة لتطوير اداء النظام وممارساته، سواء تلك المتعلقة بآليات عمله، كنظام الحزب الواحد، وقانون الطوارىء، وحتى آليات الفساد والفوضى، او تلك المتعلقة بالقوى التي يخدمها النظام والتوازنات التي يستند اليها. قد اصبحت هذه التوليفة بموضعتها الحالية، احجارا اساسية في بنية النظام، من شأن تحريك اي منها او حتى محاولة ترميمه ان تهدم المعبد على من فيه. لذلك فان خيارات النظام في هذا المجال تبدو محدودة ومحدودة جدا.
اذن كيف يستطيع نظام الرئيس بشار الاسد اخراج سوريا من الوضع المأزقي الذي تعيش فيه حاليا؟
- ثمة مؤشرات كثيرة تدل على نية التيار الاصلاحي المساند للأسد في السلطة، استغلال انعقاد المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث الحاكم لتعويم بعض الافكار الجديدة، وتنسيبها الى الجيل الجديد في الحزب، وخاصة اولئك الاعضاء المهنيين خريجي الجامعات في مختلف تخصصاتها، واولئك الذين اصطدموا بالحضارة الحديثة وقد ظهر من النتائج الاولى لانتخابات فرق "البعث" الممهدة لانتخاب اعضاء المؤتمر فوز غالبيتهم.
- ومن المتوقع في هذا الاطار تشديد تيار الاسد على الدخول مع هذه الفئات في علاقات تحالفية، في مواجهة القادة الايديولوجيين القدماء الواقعين تحت تأثيرات الترسيمات المخصصة للحفاظ على ادوارهم، وذلك بهدف مساعدة هذه الفئات "المجموعات" على تحديد ذاتها كحركة سياسية، لرفع كفاية عملها، ووضع الحركة على مستوى الفاعلين الاساسيين في الحياة السياسية، القادرين على تعديل المراهنات والتوجهات.
- ولحماية هذه العملية الاصلاحية "الشكلانية" والتي سيعد النظام أنها ستكون حجر الاساس، وقاعدة الانطلاق للتغيير الأشمل نحو المصالحة التاريخية للنظام مع بيئاته الداخلية والخارجية، من المتوقع أن يسعى النظام الى بعض التسويات على صعيد علاقاته الخارجية، وخاصة في اتجاه الدول الاوروبية التي كان بعضها قد لمح الى أن مشكلته مع النظام السوري تنحصر في المسألة اللبنانية، وعلى هذا الاساس سيطالب النظام هذه الدول باعادة تأهيله وإنهاء عزلته، واعادة العلاقات معه الى سابق عهدها، وصولاً الى توقيع اتفاق الشراكة الاقتصادية مع اوروبا.
والحال، فإن التغيير المتوقع من النظام الحاكم في سوريا، لن يتعدى أن يكون بمثابة عمليات تجميلية في بعض مناطق جسده، ليحصل جراءها على القبول الدولي، لضمان استمراره وتفكيك التحالفات المعادية له. أما التغيير الذي يرجوه الشعب السوري ويتوق اليه، فلا يزال بعيد المنال، ليس لأنه لا يستحق نقلة تاريخية كهذه، إنما لان النظام لا يزال يعتقد أنه ممسك بكل مفاصل الحياة في البلد، ولان التحديات والتهديدات الداخلية التي يواجهها متدنية جداً، لا تتطلب منه تالياً صوغ استجابات اكبر من الصياغات التي ينوي رسمها.