إليكم معلومة جديدة ربما لا تعرفونها أنقلها لكم من مدينة دبلن وهي، أن أيرلندا قد أصبحت أغنى دولة في الاتحاد الأوروبي اليوم بعد لوكسمبورج. نعم, إن أيرلندا التي اشتهرت على مدى مئات السنين بأنها الدولة المصدرة للهجرة والمنتجة للشعراء التراجيديين، وبأنها أرض المجاعات، والحروب الأهلية، والجان، قد أصبح نصيب الفرد السنوي فيها من الدخل القومي الإجمالي يفوق مثيله في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. إن الكيفية التي تحولت بها أيرلندا من رجل أوروبا المريض إلى رجلها الغني في أقل من جيل، توفر لنا مادة لقصة مدهشة في الحقيقة. وهذه القصة تقول لنا الكثير عن أوروبا اليوم وهي: أن جميع الابتكارات والإبداعات تتم الآن داخل دائرة تشمل الدول التي تعتنق العولمة بطريقتها الخاصة وهي أيرلندا وبريطانيا وإسكندنافيا، ودول أوروبا الشرقية. أما الدول التي تتبع النموذج الاجتماعي لفرنسا وألمانيا فهي تعاني من ارتفاع نسبة البطالة، وانخفاض معدل النمو.
والمسيرة الأيرلندية نحو التقدم بدأت في حقبة الستينيات من القرن الماضي، عندما قررت الحكومة جعل التعليم الثانوي مجانيا، ما أتاح الفرصة لحصول المزيد من أبناء الطبقة العاملة على شهادات ثانوية وفنية. ونتيجة لذلك، وعندما التحقت أيرلندا بالاتحاد الأوروبي عام 1973، فإنها كانت قادرة على الاعتماد على قوة عمل أكثر تعليماً بكثير من نظرائها في باقي الدول الأوروبية.
وبحلول منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كانت أيرلندا قد بدأت في جني ثمار عضويتها الأوروبية مثل الحصول على إعانات لتحسين بنيتها التحتية، والدخول إلى سوق كبير هو السوق الأوروبي. على الرغم من ذلك لم تكن أيرلندا قد تمكنت بعد من إنتاج سلع قادرة على المنافسة في الأسواق بسبب اعتمادها الطويل على السياسات الحمائية، وسوء الإدارة المالية. وفي ذلك الوقت أصبحت البلاد على شفير الإفلاس، وكان معظم خريجي الكليات يهاجرون إلى الخارج. حول تلك الفترة تقول نائبة رئيس الوزراء “ماري هارني”: «لقد اعتمدنا على الاقتراض، وعلى الإنفاق المنفلت، وفرض الضرائب الباهظة، وهو ما أدى إلى تراجعنا إلى مؤخرة الصفوف تقريبا، ولكن هذا التراجع في حد ذاته كان هو السبب الذي منحنا الشجاعة الكافية كي نتغير».
وتغير الأيرلنديون فعلا. ففي تطور غير مألوف على الإطلاق، قامت الحكومة ونقابات العمال الرئيسية والفلاحون ورجال الصناعة، بوضع أيدي بعضهم مع بعض، واتفقوا على برنامج للتقشف الاقتصادي، وتخفيض ضرائب الشركات إلى 12.5 في المئة، وهي نسبة تقل كثيرا عن مثيلتها في باقي دول أوروبا، وعلى ترشيد الأسعار، وتحسين الأجور، واتباع سياسات جريئة لاجتذاب الاستثمارات الخارجية، وجعل التعليم الجامعي أيضا مجانيا من حيث الأساس. كانت النتائج التي ترتبت على ذلك هائلة. فاليوم نجد أن تسع شركات من بين الشركات العشر الأولى على مستوى العالم في مجال الصناعات الدوائية لها نشاط في أيرلندا وأن 16 شركة من بين الشركات العشرين الأولى في مجال الأجهزة الطبية لها أنشطة وفروع في إيرلندا، وأن سبعة من بين عشرة مصممي برمجيات يعملون هناك. وفي العام الماضي حصلت أيرلندا على استثمارات خارجية مباشرة من أميركا تفوق تلك التي حصلت عليها من الصين. كما أن حصيلة الدولة من الضرائب ارتفعت ارتفاعا كبيرا، ليس بسبب رفع الضرائب ولكن بسبب زيادة عدد الشركات العاملة في البلاد.
أرسل لي مايكل ديل مؤسس شركة “ديل” المعروفة للكمبيوتر رسالة بالبريد الالكتروني يقول لي فيها: لقد أنشأنا مركزا للشركة في أيرلندا عام 1990 ولكن ما الذي اجتذبنا لذلك؟ اجتذبتنا لذلك قوة العمل المتعلمة، ووجود الجامعات بالقرب منا، وأن أيرلندا كانت تتبنى سياسة صناعية وضريبية تنتهج خطا دائما يقوم على الدعم الكبير للمشروعات والأعمال بصرف النظر عن الحزب السياسي الموجود في السلطة. علاوة على ذلك كان لدى أيرلندا نظام مواصلات جيد، وخدمات إدارية طيبة، وموقع ممتاز يسهل نقل المنتجات منه إلى الأسواق الكبيرة في أوروبا خلال فترة وجيزة.
ويضيف السيد “ديل”: علاوة على ذلك نجد أن الأيرلنديين قادرون على المنافسة، وطموحون ولديهم رغبة في النجاح ويعرفون جيداً كيف يكسبون. ويشار هنا إلى أن شركة “إنتل” قد قامت بإنشاء أول مصنع للشرائح الالكترونية في أيرلندا عام 1993. وكما يقول “جيمس جاريت”، نائب رئيس الشركة، فإن الذي جذب “إنتل” إلى أيرلندا هو وجود أعداد كبيرة من المتعلمين من الجنسين، وانخفاض ضرائب الشركات، والحوافز الأخرى التي وفرت لشركته حوالي مليار دولار على مدى 10 سنوات. ويضيف جيمس جاريت إلى ذلك قوله: لدينا الآن 4.700 موظف موزعون على أربعة مصانع، كما أننا نقوم بإجراء تصميمات متطورة للشرائح الالكترونية في شانون بالتعاون مع مهندسين أيرلنديين.
في عام 1990 كان تعداد قوة العمل في أيرلندا هو 1.1 مليون. أما في هذا العام فإن هذا الرقم سيصل إلى مليون مع العلم بأنه لا توجد هناك بطالة في أيرلندا كما يوجد بها 200 ألف عامل أجنبي منهم 50 ألف صيني. ويشار هنا بصدد الرقم الأخير الخاص بالصينيين إلى أن رئيس الوزراء الأيرلندي بيرتي أهيرن قد أدلى بتصريح قال فيه: لقد قابلت رئيس الوزراء الصيني خمس مرات خلال العامين المنصرمين.
إن النصيحة التي تقدمها أيرلندا لباقي الدول الأوروبية الراغبة في أن تحقق ما حققته هي نصيحة بسيطة للغاية: اجعلوا التعليم الثانوي والعالي مجانيا، اجعلوا ضرائب الشركات منخفضة وبسيطة وشفافة، مدوا أيديكم إلى الشركات العولمية، افتحوا اقتصاداتكم أمام المنافسة، تحدثوا باللغة الإنجليزية، رتبوا بيتكم المالي من الداخل، وابنوا إجماعا حول الحزمة برمتها بين الإدارة والعمال، وواصلوا السير ولا تتوقفوا مهما كانت العقبات التي ستواجهكم على الطريق. وحينها ستستطيعون أنتم أيضا أن تصبحوا من بين أغنى الدول في أوروبا.