هناك جدل محتدم وساخن يدور في أوروبا اليوم, حول أي نمط اقتصادي يتبع: النمط الفرنسي-الألماني, المؤلف من أسبوع عمل أقصر وعطلة سنوية مداها ستة أسابيع, إلى جانب تفادي تشريد أي موظف أو عامل من وظيفته, مع ما يلازم هذا النمط من معدلات بطالة مرتفعة جداً في ذات الوقت, أم نمط الاقتصاد الأنجلو- ساكسوني ذو العمالة المرتفعة, الذي تفضله كل من بريطانيا وأيرلندا وأوروبا الشرقية؟ بالنسبة لي فإن من البديهي أن طريق المستقبل الأوروبي, إنما يحدده النمط الإيرلندي-البريطاني, وأن المصير الوحيد الذي ستواجهه كل من ألمانيا وفرنسا لدى أخذهما بالواقع العيني الملموس هو: إما أن تتحولا إلى أيرلندا, أو أن تصبح كلتاهما, متحفاً من متاحف التاريخ! ذاك هو الخيار الواقعي المطروح أمام فرنسا وألمانيا, في غضون السنوات القليلة المقبلة: إما طريق اللوفر, أو الطريق الأيرلندي... فأيهما تختاران؟
ولما كنت قانعاً بهذا المصير, فإني على قناعة بأمر آخر, مفاده أن النظامين السياسيين في كلتا الدولتين –فرنسا وألمانيا- سوف يتعرضان لهزات عنيفة خلال السنوات القليلة المقبلة, بسبب مطالبتهما ببذل مجهود أكبر, والامتثال إما لخيار الانفتاح أمام المزيد من الاستثمارات الأجنبية, أو أن تزداد قدرة المهاجرين المسلمين ومن دول أوروبا الشرقية إلى البلدين, على المنافسة في سوق العمل. وكما قال لي أحد مديري العلاقات العامة التنفيذيين في دبلن: كيف لك أن تكون ذلك الزعيم الفرنسي الذي سيقول لمواطنيه, إن عليهم أن يحذوا حذو النمط الأيرلندي؟ أو أن يحذوا حذو توني بلير, وهو الأسوأ في نظرهم؟ وكان توني بلير هو الذي بيَّن لنظرائه الأوروبيين, كيف يمكن للأمور أن تمضي نحو الأسوأ, لدى مخاطبته البرلمان الأوروبي بقوله, إن على الأوروبيين إما أن يتبعوا نهج الحداثة, أو أن ينتهي بهم المصير إلى حضارات منقرضة!
يذكر أن أعضاء البرلمان الأوروبي الفرنسيين من أنصار شيراك, كانوا قد لزموا الكراسي الخلفية من القاعة, على حد قول صحيفة "تايمز" اللندنية. غير أن الصحيفة نفسها نقلت عن جان كواتريمير – مراسل صحيفة "ليبراسيون" اليسارية الفرنسية من بروكسل- قوله: على مدى سنوات بعيدة ظللنا نتحدث عن النمط الاجتماعي الفرنسي, في موازاة نظيره الأنجلو-ساكسوني سيئ الذكر. إلا أن الوقت قد حان لنفتح عيوننا, وندرك لأول مرة, أن السيئ فعلاً إنما هو نمطنا الذي ظللنا نفاخر به. ولما كان نصيب أيرلندا من الاستثمارات الخارجية الأميركية المباشرة خلال العام قبل الماضي 2003, قد فاق ما حققته الصين من الاستثمارات نفسها وفي العام ذاته, فربما تأهبت كل من فرنسا وألمانيا, لتعلم بعض الدروس المفيدة في مجال الاستثمارات, من ذلك النمر الأيرلندي.
وكانت أولى وأهم الخطوات التي اتخذتها أيرلندا على طريق الإصلاح, هي تذليل فصل العاملين والاستغناء عن خدماتهم, دون أدنى التزام بدفع مستحقاتهم عن سنوات خدمتهم. وعلى رغم ما في هذه الحقيقة من وحشية وقسوة –فيما يبدو- إلا أن الحقيقة هي أنه كلما سهل على الشركات والمؤسسات فصل العاملين, كلما زادت رغبتها في استخدام العمالة الجديدة.
ذلك هو ما أكده هاري كرامر– المدير التنفيذي السابق لشركة "باكتسر" العالمية لصناعة المعدات والأجهزة الطبية- وهي شركة لها الكثير من الاستثمارات في أيرلندا, بقوله: لقد تضافرت عدة عوامل من أهمها: مستوى الطاقة, والأخلاقيات المهنية, وامتياز النظام الضريبي, والمرونة وتوفر العمالة معاً, لتجعل من أيرلندا منطقة استثمارية, أكثر جذباً بما لا يقاس إلى ألمانيا وفرنسا, اللتين تبلغ فيهما تكلفة تسريح عامل أو موظف واحد فحسب, أرقاماً فلكية. وعلى عكس ذلك تماماً, يتمتع الأيرلنديون بثقة كبيرة في الذات, وبأنه كلما اتسمت قوانين العمل بالمرونة, كلما أصبح مفهوماً خسارة بعض الوظائف, مقابل كسب وظائف جديدة تنشأ مكانها. وأضاف المتحدث مستطرداً أن ذلك هو ما حدث بالفعل في أيرلندا. فهذه الأخيرة تلعب في خانة الهجوم, بينما تستميت كل من فرنسا وألمانيا في خانة الدفاع. وكلما حاولت الأخيرتان حماية كل وظيفة من الوظائف القديمة في سوق العمل, كلما قلت قدرتهما على جذب الوظائف والأيدي العاملة الجديدة.
بيد أن الواقع يحتم علينا القول إن أيرلندا قد بدأت اللعب في خانة الهجوم بعدة طرق ووجوه وزوايا. فقد شرعت أولاً باستقطاب الاستثمارات الخارجية الأميركية في مجال التقنيات المتقدمة, وذلك بتوفير عمالة مرنة وجيدة التأهيل والتدريب, إلى جانب ضرائب استثمارية مخفضة. ثم مضت إلى الخطوة التالية, المتمثلة فيما قالته ماري هانافين, وزيرة التعليم الأيرلندية, عن أن بلادها اعتزمت مضاعفة عدد حملة شهادات ودرجات الدكتوراه, في مجالات الهندسة والعلوم بحلول عام 2010. كما عملت الوزارة على توفير الأموال اللازمة, لاجتذاب العقول الخلاقة والشركات الأجنبية المتخصصة في مجال التكنولوجيا, بغية إجراء البحث العلمي في هذين المجالين الحيويين فحسب. لذا فإنه لا غرو أن تنشط أيرلندا كل هذا النشاط في استقطاب وتعيين العلماء الصينيين على وجه الخصوص. تعليقاً على هذه الظاهرة قالت الوزيرة هانيفان, إنه من الجيد بالنسبة لنظامنا التعليمي, أن يختلط طلابنا النجباء, بأقرانهم النابهين من مختلف البلدان والثقافات. ومما لا شك فيه أن ريح الصناعة ستهب أينما ينصب اهتمام البحث العلمي.
إلى ذلك أوضح السيد مايكل مارتن – وزير التجارة والاستثمار الأيرلندي - أن الهدف من هذه السياسات, هو إنشاء وخلق شركات وطنية أيرلندية, وليس مجرد العمل من أجل الآخرين ولصالح الاستثمارات الأجنبية. وعليه فقد أعلنت الوزارة مؤخراً, عن إنشاء صندوق وطني, لحفز وتشجيع الشركات الأيرلندية الناشئة الواعدة, بقصد دعمها وتوجيهها. كما يهدف الصندوق أيضاً, إلى دعم وتنمية الشركات المتوسطة, العاملة في مناخ استثماري من الشركات متعددة الجنسيات. وهكذا نبقى مع أيرلندا في خانة الهجوم