من لندن إلى باريس إلى برلين ووصولا واشتعالا في بروكسل ثمة نقاش ساخن هذه الأيام بين بريطانيا من جهة وبقية دول الإتحاد الأوروبي من جهة أخرى حول ضرورة تعديل سياسات الدعم والحماية الأوروبية التي تؤدي إلى احلال دمار في اقتصاديات العالم النامي وخاصة أفريقيا. أهم تلك السياسات هي ما يعرف بالسياسة الزراعية الجماعية، وهي التي تقوم على دعم مزارعي الاتحاد الأوروبي وتشجيعهم ومنحهم مخصصات سنوية مالية هائلة بما يتعارض كليا مع شعارات الليبرالية الإقتصادية والتجارة الحرة وفتح الحدود أمام حركة البضائع والمنتجات بين الدول. تؤدي تلك السياسة كما هو معروف إلى تمكين مزارعي أوروبا من إنتاج محاصيل بتكلفة لا يمكن لأحد منافستهم فيها، وبالتالي إغلاق باب المنافسة أمام أية محاصيل زراعية قادمة من بلدان العالم الثالث وأفريقيا. بريطانيا تريد من الإتحاد الأوروبي إعادة النظر في هذه السياسة، خضوعاً لأبسط قواعد العدل والمنطق، وخضوعاً للضغوطات العالمية التي تقودها منظمات غير حكومية معنية بمحاربة الفقر المعولم ومعالجة الإختلالات الكبرى التي تحيق بالكوكب الأرضي. في المقابل، تقف فرنسا بشدة ضد أي تعديل أو حتى مجرد إعادة النظر في هذه المسألة، تناصرها ألمانيا. وهكذا، ومرة أخرى تتبدى البراغماتية البريطانية بمظهر متأنسن أكثر بكثير من التفلسف الثقافوي الفرنسي أو نظيره الألماني عندما يأتي الحديث عن الجزء الفقير من عالمنا. والمفارقة الغريبة في هذا السياق أن رئيس وزراء فرنسا الحالي، دومينيك دو فيلبان، يُهلل له ويرحب به في أجواء السياسة بكونه »السياسي الشاعر« المرهف الأحاسيس! ولا نعرف ماذا يحدث لهذه الأحاسيس وهو يعرف تماماً الإحصائية المشهورة في أروقة نقاد السياسة الزراعية والتي تقول بأن كل بقرة أوروبية يتم إنفاق دولارين إلى ثلاثة دولارات عليها كل يوم، في حين أن مئات الملايين في أفريقيا وغيرها لا ينعمون بأكثر من دولار واحد في اليوم!

أوروبا تقدم دعماً سنوياً لمزارعيها يتجاوز الستين مليار دولار وهو رقم فلكي بكل المعايير. كما أن الولايات المتحدة من جهتها تدعم مزارعيها هي الاخرى برقم فلكي يتجاوز الرقم الأوروبي. هذا الدعم، مرة أخرى، يناقض أبجديات التجارة الحرة ولبرلة الإقتصاد التي تدعو لها أوروبا، وكذا منظمة التجارة العالمية. وهو دعم يكرس نفاق هذه الدول إزاء مساعدة الدول الفقيرة على النهوض من تخلفها، وفي نفس الوقت يسبب دماراً بعشرات المليارات إن لم يكن أكثر لمئات الألوف من المزارعين الأفارقة الذين تتحول المحاصيل التي ينتجونها إلى جبال متراكمة من النفايات لأنهم لا يستطيعون أن يصدروها إلى أوروبا بسبب عدم القدرة على المنافسة. فالدعم الذي يكاد لا يستثني كل من له علاقة بالزراعة من قريب أو بعيد (بمن فيهم ملكة بريطانيا نفسها ومزارعها الشاسعة) لا يمكن أي أفريقي أو غير أفريقي من بيع منتجاتهم بأسعار لا يمكن أن تنافس. ليس هذا فحسب، بل إن المحاصيل الزراعية الأوروبية تغزو الأسواق العالمثالثية بأسعار خيالية فتدمر المنتجات المحلية في عقر دارها، وما كان بإمكانها أن تفعل ذلك لو أن المنافسة تُركت متكافئة ومن دون تدخل الدول الأوروبية والدعم الهائل الذي تقدمه لمزارعيها.
دول العالم النامي، وخاصة الدول الأفريقية الأهم، جنوب أفريقيا، نيجيريا، وغيرهما، بالإضافة إلى البرازيل والمكسيك والهند، دأبت على شن هجومات شرسة ضد السياسة الزراعية الحمائية في أوروبا لأنها ظالمة ومدمرة، وأحادية وانفرادية. ففي الوقت الذي تجول وتصول فيه المنتوجات الأوروبية والأمريكية صناعييها وزراعييها في كل أرجاء الأرض، فإن أراضي هذه البلدان مقفلة أمام المنتوجات العالمثالثية. وفي كل جولة مفاوضات من جولات منظمة التجارة العالمية تطرح هذه القضية على رأس أجندة القضايا المطروحة. كما أن هذه السياسة هي واحدة من اهم المسائل التي تناضل عشرات المنظمات غير الحكومية، الأوروبية وغيرها، لإلغائها بسبب تأثيراتها التدميرية.

الخلاف البريطاني، الفرنسي، الألماني يحتاج أكثر من تأمل، ويحتاج إشادة لبريطانيا على الموقف الراهن، وإدانة لفرنسا وألمانيا على الموقف غير الإنساني. تظهر بريطانيا، وخاصة وزير ماليتها القوي غوردون براون، تصميماً ملفتا في الاشهر الاخيرة على فتح ملف الفقر في العالم، وخاصة في أفريقيا بكل جدية. ولهذا فقد ضغطت باتجاه برنامج يقضي بإلغاء ديون القارة السمراء، الأمر الذي تلكأت فيه بقية الدول، ولم تبلعه الولايات المتحدة إلا على مضض. بريطانيا، كما يبدو، تريد إعادة تأهيل سمعتها الدولية وخاصة في العوالم غير الغربية بعد أن تلطخت تلك السمعة بالموقف التبعي الأعمى لجورج بوش في السنوات الأخيرة، قبيل وخلال وبعد حرب العراق. والبراغماتية البريطانية تدرك أنه لا يمكنها أن تتحمل صورة سالبة كالتي جرتها عليها الحرب، ولا دبلوماسية تقع أسيرة لحدث واحد حتى لو كان بضخامة الحرب العراقية.

الخلاف امتد إذ ترفض الآن بريطانيا دفع حصتها في الميزانية الخاصة بالإتحاد من دون تعديل سياسة الدعم الزراعي وجعلها أكثر إنسانية، ذاك أن وجهة النظر البريطانية تقول إنه من غير المعقول أن تدفع بريطانيا أموالا طائلة تذهب إلى المزارعين الفرنسيين والألمان “والبريطانيين كذلك وغيرهم”. ثم في نفس الوقت تقتر أوروبا على أفريقيا بالمساعدات بآحاد المليارات وبالشيء الكثير من الشروط وتحميل الجميل. فالمساعدة الأهم لأفريقيا وغيرها من دول العالم النامي تكمن في فتح الأسواق الأوروبية أمام المنتجات غير الأوروبية ومنحها فرصة المنافسة على قدم المساواة. وقبيل عقد مؤتمر قمة الثمانية في غلين إيجلز في اسكتلندا، عاودت لندن طرح هذه القضية على مستوى أوروبي من دون فائدة، ولا يبدو أنها ستنجح في إقناع «الشاعر الفرنسي» ورئيسه وكذا رجل البزنس الألماني في تغيير مواقفهما.

وعلى الضفة الأخرى للمحيط الأطلسي يبدو الموقف الأمريكي أكثر سوءا تجاه الحمائية الإقتصادية للمنتوجات الزراعية، لكن ليس من معارض هناك حتى تُسمع القضية عالمياً. والفضيحة الأمريكية في إظهار البخل العالمي أكبر بكثير من تلك الأوروبية. فما تقدمه واشنطن من دعم لكل بلدان القارة الأفريقية بالكاد يتجاوز 3 مليارات في السنة (تقريباً نصف الدعم الذي يقدم لإسرائيل). ولأجل المقارنة فقط يكفي التأمل في نفقات الحرب على العراق والتي ستبلغ مع نهاية هذا العام بحسب التقديرات المتوسطة 200 مليار دولار، أي قيمة الدعم لأفريقيا لمدة قرن!!

مصادر
الدستور (الأردن)