نشرت جريدة السياسة الكويتية حديثا طويلا معي أصابه كثير من البتر والحذف والتقويل والتفسير ، وشهد إضافات تخدم أغراض إدارة الجريدة ، التي ليست أغراضي ، ومقاصدها ، التي لا تتفق مع مقاصدي . بعد قراءة الحديث ، أعيد نشر المقابلة في صورة هي الأقرب إلى حقيقة ما عبرت عنه ، خاصة وأنني لم أر النسخة الجاهزة للطباعة ، ولم أقرها ، كما يحدث في حالات كهذه ، وكان إطلاعي عليها وأخذ موافقتي على مضمونها ونصها شرطا وضعته للموافقة على نشرها . بما أن هذا لم يحدث ، لأغراض تتعلق بإدارة الجريدة ، فإنني أعتبر النص التالي هو النص الوحيد ، الذي يحمل آرائي ويعبر عن وجهات نظري .
س– هناك أزمة في الفكر العربي عموما . هل أزمتنا هي أزمة الفكر السائد سلطويا أم أنها أزمة الفكر المعارض ، الذي يسعى بدوره إلى السلطة ؟
ج- إلى ما قبل سنوات قليلة ، كانت أزمتنا هي أزمة الفكر عموما ، وبشكل خاص فكرنا نحن الذين تحدثنا من خلال الشعارات الثورية ، التي حملناها . ذلك أن الثورية كان معناها تبني منظور أيديولوجي يقول أحد أسسه إن قضايا الزمن السابق ، قضايا عصر النهضة العربي ، لم تعد قضايا ، ومنها مثلا مشكلة الحرية ، ومشكلة الإنسان ، والمواطنة ... الخ ، وأن هذه القضايا محتواة جميعها في الاشتراكية ، وهي أيديولوجية تالية لعصري النهضة والأنوار، وبهذا المعنى ، لسنا بحاجة إلى البحث في مشكلات ذلك العصر ، لأنها مشكلات زمن سابق . في اعتقادي ، هذا الموقف قتل الفكر وحوله إلى أيديولوجيا ، يمكن أن توظف في خدمة نظام سياسي. وقد وظفت فعلا لخدمة نظام معاد للإنسان وللحرية والفكر ، أعتقد أن القسم الأكبر من المثقفين العرب شاركوا فيه . بالمقابل ، كان قسم مهم مثقفون قالوا بعدم جواز إلغاء أو تجاوز مسائل وقضايا عصر النهضة ، سواء حدث ذلك من أجل أيديولوجيا اشتراكية أو قومية أو غيرهما ، لأن تلك المسائل ترتبط بالأساس الذي تنهض عليه الحداثة ، ولا ترتبك بنظام سياسي أو بأيديولوجيا معينة ، وبالتالي فهي ترتبط بالأرضية التي يقوم عليها أي نظام حديث سواء كان اشتراكيا أم رأسماليا ، ليبراليا أم شموليا ، كما قالوا أنه لا يمكن أن توجد سياسة دون هذه المسائل . والآن ، ثمة تيار حقيقي يمثل الثقافة في اعتقادي ، لأن تمثيلها ليس قضية كمية بل هو مسألة نوعية ، بدلالة أنها كثيرا ما تمثلت في شخص واحد مثل المستقبل والعقل والروح والإنسان والحرية ، مثلما حدث في الدعوة المحمدية ، عندما جسد هذه القيم جميعها شخص واحد هو محمد بن عبد الله . بسبب اختلاف الرؤية هذا ، وصل مثقفو المعارضة والموالاة إلى أقصى حدود التباعد في مواقفهم ، لأن الأخيرين زعموا أننا تخطينا جميع مشكلات عصر النهضة المرتبطة بالإنسان والمواطنة ، لأننا تجاوزنا مشكلات العصر البرجوازي ، بينما قلنا نحن ونقول : هذه ليست مشكلات العصر البرجوازي ، بل هي مشكلات أي مجتمع يريد الانتقال إلى حالة متقدمة ، ويريد إيجاد الأرضية التي يقوم عليها السياسي وتنهض فوقها السياسة ، وبالتالي مشكلات المجتمع الحديث والدولة الحديثة ، فهي إذن مشكلات تتجاوز الاشتراكية والرأسمالية ، وليست ولا يمكن أن تكون مشكلات من طبيعة أيديولوجية .
س – أيديولوجيا البعث السوري هي حالة هجينة ما بين الاشتراكية والرأسمالية . هل خلق البعث أيديولوجيته الخاصة ؟.
ج- هذا صحيح . إذا ما قارناه بالنظم الشمولية لوجدنا أنه واحد من أكثرها تطورا ، فهو أكثر تطورا من النظم التي كانت قائمة في بلغاريا أو منغوليا وأوزبكستان ، وربما كان أكثر تطورا من النظام السوفييتي نفسه ، الذي افتقر إلى تأييد الغرب ، بينما هو يؤيده الغرب وأيده السوفييت في السابق . يحتاج النظام لأيديولوجيا تضبط صفوفه وتلحق كما هائلا من الفقراء به والمستضعفين بسلطته وحزبه ، ليس لألأن هذه تلبي مطالبهم ، بل لأنها أداة تضليل تقنع الناس أن النظام مبدئي وغير أيديولوجي أو عقائدي . هنا ، الأيديولوجيا هي الإكمال العقائدي الضروري لثكننة العقل ، التي تمارس على الإنسان مع بداية دخوله في الطلائع وعمره ثلاث أو أربع سنوات ، وصولا إلى الجامعة ، مرورا بشبيبة الثورة – وعمره 13 عاما – وإدخاله إلى حزب البعث بعد ذلك بقليل . هنا ، الأيديولوجيا هي الإطار العام ، الذي يتم فيه الاستيلاء على الإنسان واحتواؤه وبالتالي نزع خصوصيته ، وتحويله إلى أداة بيد نظام لا يلبي حاجاته ومصالحه ، لكنه يستأثر به إلى درجة تجعله يقبل واقعا تتطلب مصالحه رفضه ، وهي – الأيديولوجيا – مركب غريب عجيب فيه مكونات كثيرة : مكون ديني ومكون ما قبل مجتمعي ، طاسئفي أو عشائري ، ومكون حديث ما بعد نهضوي ، ماركسوي أو اشتراكوي ، ومكون قوموي وقروسطي ، - يتجلى المكون الأول والأخير في عبادة الشخص على سبيل المثال - ، فهي حالة لقاطية غريبة مكرسة لاحتواء مجتمع متنوع التكوينات . لكنني أعتقد أن هذه الأيديولوجيا فقدت فاعليتها في السنوات الأخيرة ، وتتحول ، على العكس من وظيفتها ، إلى أداة ضد حملتها ، الذين صرنا نسألهم عن الاشتراكية والوحدة القومية والحرية ، ونضغط عليهم بأيديولوجيتهم ذاتها .
س- هل استعارت أيديولوجيا السلطة الحاكمة البعثية أو الشمولية شيئا من أيديولوجيا الدين ، حيث هناك أيضا الحساب والعقاب ؟.
ج- حرام تشبيه أيديولوجيا تعمل بآليات غيبية بالدين ، فالدين نبيل وسام ولعب دورا هائلا في الحفاظ على النوع الإنساني وتحرير الإنسان ، بأن رفع قيمته وجعله مركز الوجود بصفته خليفة الله في الأرض وصورة الله ومثاله ، بينما تنفي الأيديولوجيات الشمولية الإنسان جذريا ، ولا يوجد مكان له فيها ، رغم أنها تحل كأيديولوجيا علمانوية تعمل بآليات غيبية طقوسيات وآليات المقدس محل طقوس وآليات الدين ، وتعمل على وضع رموزها محل رموزه في وعي البشر ، فيصبح أعضاء القيادة القطرية ، فجأة ، حواريين ورسلا ، ويصير الحزب الكنيسة والأيديولوجيا الحزبية الدين الجديد ، ويبدو أن آليات اشتغال الأيديولوجيا تستعير آليات اشتغال دينية .
س – ندخل قليلا إلى الوضع السوري الداخلي . هناك اقتناع لدى البعض أن أساليب الحكم المعمول بها منذ أربعين عاما قد شاخت واهترأت ، ولا بد من تغييرها . ويغالي البعض بالقول بقول وإعادة بناء أساليب حكم جديدة . ما رأيك ؟.
ج- من المستحيل الإبقاء على النمط السائد ، حتى إن اجتمعت قوى الأنس والجن ، لأن هذا النمط تقادم إلى درجة أنه لم تعد له وظيفة ، فهو بهذا المعنى ميت ، خاصة وأنه لم تعد لديه وعود أيضا ن لأنه لم يعد يستطيع وعد الناس بالوحدة والحرية والاشتراكية . ما هي وظيفته إذن ؟. هل سيوزع الدخل الوطني على الناس بالعدل ، أم سيقوم بالتنمية ، أم سيحرر الأراضي المحتلة وفلسطين ، ويحقق الوحدة العربية ؟. أعتقد أنه لم يعد لديه ما يقوله ،إن هو تمسك بصيغته القائمة ، التي تقادمت ، وأنه محكوم بآليات اشتغال ذاتية تفككه ، وأن هذه أدخلته في طور تفكك بغض النظر عن وجود المعارضة أو عدم وجودها . هذا النمط الذي تقادم لا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع إنقاذه ، حتى لو أيدته أميركا والصين وروسيا وفرنسا وإيطاليا ، لأنه فقد وظيفيته ، ولأن أصحاب النظام صاروا قانعين بضرورة التخلي عنه . لذلك ، اقترحنا كأطراف وأطياف مثقفة ومفكرة ومعارضة ، محبة للوطن ولا تريد له أن يذهب إلى محظورين بغيضين قد يترتبا على ذهاب النظام أو استمرار سياساته الراهنة هما الفوضى والاحتلال ، أن يتم انتقال كتدرج وآمن وسلمي متوافق عليه وطنيا تحت إشراف مشترك يجمع هذه القوى والنظام ، على أن تكون له مراحل نحددها سويا ، ولا يدفع أحد ثمن ويكون شعارنا عفا الله عمل مضى ، مطلبنا الانصراف إلى حل مشكلات البلد كأولوية تجمعنا لأن في حلها حل لمشكلة العلاقة بين أطراف العمل السياسي من سلطة ومعارضة . قلنا إن هذه هو السبيل إلى بلوغ وضع مختلف يكون فيه دور ومجال لجميع السوريين ، الذين يرغبون في أن يكون لهذا الوطن وجود ، ويضعون مصالحه فوق مصالحهم الشخصية ، فننتقل بذلك إلى سوريا جديدة ، وطنية وديموقراطية وحرة ، ونتخلص من مآسي ساهم نظام البعث فيها . هكذا ترى أننا لسنا دعاة تشف ، وأننا لا نفرج بفشل وانهيار النظام ، وأن دعوتنا موجهة إلى الجميع ، وهدفها حماية وطننا وتجنيبه المصائب والكوارث والويلات بقوة وحدة وطنية حقيقية تضم الجميع دون استثناء .
س – ما هو دوركم العملي كقوى معارضة ، أم أن المسألة لا تتجاوز التنظير فقط ؟. هل لديكم دور حقيقي وبرنامج فعلي تقومون به ؟.
ج-نحن من قدم مشروع خلاص سوريا من أزماتها في المرحلة الانتقالية ، الصعبة والمعقدة التي تمر بها . كنا نقول إن سوريا تمر في مرحلة انتقال ، وكان النظام ينفي ذلك ، وقد اقتنعت جهات كثيرة في السلطة وخارجها أن سوريا تجتاز طور انتقال خطير ، ونحن نعمل اليوم من أجل باء كتلة مجتمعية / سياسية قادرة على تمرير ودعم برنامج إصلاح وانتقال ديموقراطي سلمي يأخذنا إلى دولة حق وقانون في إطار السلم الأهلي والأمن الاجتماعي والوحدة الوطنية ، وليس في إطار ما هو سائد حاليا ، حيث يتم الانتقال والتغيير بصورة عشوائية ومفعمة بالمخاطر . أعتقد أننا الجهة الوحيدة ، التي تملك اليوم رؤية شاملة ومتماسكة حول مستقبل البلاد وخلاصه ، لأننا نفكر في أطر المصلحة الوطنية أكثر مما يفكر أهل النظام ، الذين يرون الأمور بمنظار ضيق ، بينما ينصب تفكيرنا على إبقاء الوطن لكل أبنائه ، وننظر إلى الأمور بمنظار جامع يستوعب مصالح الجميع ، بما فيها مصالح النظام ، ونحرص على أن لا يكون هناك فوضى أو انهيار داخلي أو مشكلات تنجم عن استمرار الحل الراهن .
س – هل تصب فكرة المؤتمر الوطني العام – الذي دعوتم إليه – في هذا السياق ، وهل تعتقد أن البعث سيوافق على الجلوس والتحاور مع المعارضة ؟.
ج- يقال أن هناك توصية من مؤتمر الحزب بإجراء حوار وطني . وأنا اعتقد أن الحوار الوطني سيكون الخطوة الأولى نحو المؤتمر الوطني ، وأظن أنهم سيقبلون في النهاية بالمؤتمر الوطني لأنه ليس لديهم خيارات أخرى . البعث بالنسبة لنا واقع موضوعي أفقرنا وأخرجنا من السياسة كمجتمع وكشعب ، وهذا واقع لن يستمر ، أنه غير مقبول ، ولأن البعث سيكتشف في النهاية أن مشكلته ليست مع المعارضة بل مع هذا الواقع ، الذي أفقده وظيفتيه ويخرجه من التاريخ ، ويجعله غير منسجم أكثر فأكثر مع حاجات الشعب السوري والمرحلة ، وخط التاريخ . لقد وصل النظام إلى هنا ليس لأننا أقنعنا الناس بذلك ، بل لأن سياسته هي التي أقنعتهم به ، والحقيقة أنني لا أعرف بماذا يمكن أن يجيب النظام إن سئل عن الوحدة والحرية والاشتراكية ، والإصلاح السياسي ، واحترام حريات وحقوق المواطنين والشعب ؟. إذا كنا بحاجة إلى أربع أو خمسة أعوام من أجل إصدار قانون أحزاب ، فإلى كم عالم سنحتاج ، للخروج من مأزقنا ، علما بأن عدم صدور قانون أحزاب يعني أن البعث حزب غير شرعي ، وأن من يحكم البلد يستطيع ملاحقة أعضائه باعتبارهم منتسبين إلى حزب غير شرعي . أن من الجنون تأجيل الإصلاح والتلكؤ فيه . ثمة مشكلة في بنية النظام ، زفي طريقة عمله ، وفي تقادمه وضياع دوره الوظيفي ، ومن واجب أهله استيعاب دروس التاريخ ، فالقمع ليس في النهاية سياسة تستطيع حماية النظام وإدامته ، والأمن يؤدي دوره إن وقع في سياق سياسي صحيح ، أما أن يكون سياسة وحيدة في تشكيلة تتهاوى ، فهذا يجعل من المحال قيامه بدوره ، ولا يحمي النظام .
س- طرحت موضوع الحوار وقبول الآخر . أحب أن أعرف رأيك في الديموقراطية ، وكيف تنظر إلى دور المجتمع المدني في سوريا ، وما دور المبدعين والمثقفين في تنشيط هذا الدور وتطويره ؟.
ج- الديموقراطية نظام حكم وحياة وتفكير ، وهي بهذا الفهم فضاء يتسع لمكونات سياسية ومجتمعية وثقافية واتنية متنوعة ومختلفة ، تستطيع أن تتحرك فيه بملء حريتها دون أن تصطدم بطريقة عدائية بعضها ببعض ، ودون أن تتكون بينتها تناقضات تدفع بها إلى الاقتتال أو الخروج عن العيش المشترك . الديموقراطية نظام يخلق فضاءا يقوم على التنوع ، ويرفض تعددية الواحد ، التي يأخذ بها البعث ، ويقبل الاختلاف في الرأي ويقبل الآخر ، ويجد مساحة حرة لجميع مكوناته ، لأن وجود الآخر ضروري لوجود الذات ، وهو الذي يعطيها وظيفتها ودورها ، بما أنه يتفاعل ويتكامل معها في حاضنة تختلف نوعيا عن ما يريده منها كل طرف من أطرافها ، ولأنها تمكن هؤلاء جميعهم من لعب أدوارهم وممارسة وظائفهم كما كان كل منهم وحده ، لكنه يأخذ حقوق ومصالح الأطراف الأخرى بعين الاعتبار ويلتزم بها وكأنها مصالحه ، ما دام قيام واستمرار النظام الديموقراطي والجماعة الوطنية مستحيل دون ذلك ، أي ما دام الفضاء الحر والمفتوح ، الذي يضمن مصالح الجميع ، لا يوجد بغير هذه البنية . مشكلة البعث أنه لا يعرف هذا الفضاء المفتوح ويرفضه ، حتى داخل حزبه ، وهو لا يعترف بالآخر إلا كتابع ، والفضاء الذي أقامه خاص بالسلطة دون غيرها ، فهو فضاء غابت عنه الدولة والمجتمع ، غاب عنه الفرد والحزب ، مثلما تغيب عنه الثقافة والسياسة وأية فاعلية مجتمعية أو تشاركية . لذلك ، نحن أمام سجون وقيود ، أمام الذات التي تنفي الآخر ، وترفض القبول به .
هذه هي الديموقراطية في فهمي ، ولها أشكال ومراحل تتعين بخصائص الفضاء الذي تتوقعن فيه ، وتاليا ترجمات عديدة . يقال ، لأسفي الشديد ، أن الديموقراطية نموذج غربي لا يلائمنا ، ويتعارض مع تاريخنا العربي / الإسلامي . وأقول إننا كنا أول حالة حضارية / ثقافية في التاريخ أسست أوسع فضاء للتنوع والاختلاف في إطار الوحدة الجامعة ، الفضاء المشترك ، وأننا استقبلنا في فضائنا الخاص عشرات الاتنيات والأقوام والشعوب ، التي عاشت بيننا وتحركت بحرية في إطارنا المشترك ، ووصل أبناؤها إلى أعلى المراتب وأرفع المناصب ، وحافظوا ، في الوقت نفسه ، على معتقداتهم وخصائصهم وهوياتهم . هل تعلم أن المسيحيين شكلوا أغلبية تبلغ 85 % من سكان سوريا ، بعد قرون عديدة على دخول الإسلام إليها ؟. الديموقراطية كفضاء مفتوح علا التنوع والمشتركات معروف لدينا ، وهي من صميم تاريخنا ، الذي لم يقم على شق المجتمع إلى عبيد وأحرار ، كما في أثينا ، حيث لم يكن للعبد أية حقوق ، وكان ممنوعا من المشاركة في الشؤون العامة ، وتاليا من حضور الاجتماعات العامة ، التي كانت حكرا عل الأحرار وحدهم ، وكانوا منا هو معروف قلة . إن ما أنجزناه في تاريخنا هو هذا الفضاء المفتوح نحو الداخل ، القائم على تنوع وحرية لا تؤديان إلى ارتطام مكونات مجتمعنا بعضها مع بعض ، ولا تفضي إلى إضعافها أو إضعاف المجتمع ذاته ، بل حفظته ونمته . نحن ، بهذا كله ، آباء الديموقراطية وحملتها ، ولسنا غرباء عنها ، كما أنها ليست بدورها غريبة عنا .
س – لكن البعث يعتبر الديموقراطية الشعبية والتعددية الحزبية موجودة في تجربة الجبهة الوطنية التقدمية .
ج- هذه تعددية الواحد ، الذي ينتج أشباهه . إن أحزاب الجبهة ليست أحزابا ، لأنه ليس لديها برامج مستقلة ، ولأنه ليس لها الحق في تقرير سياساتها بنفسها ، ولأنها ممنوعة من العمل في أوساط عديدة . إنها ليست أحزاب لأن الحزب تجمع طوعي لأناس لديهم برنامج مستقل ويعملون في فضاء سياسي / مجتمعي مفتوح على الجميع وأمام الجميع . ثم أن هذه الأحزاب تأسست في سياق احتواء المجتمع السوري ولم تتأسس في سياق الاعتراف بحقه في التعبير عن نفسه ، أو في سياق بحثه عن تعبيرات سياسية تمثله . لذلك ، أعتقد أن أحزاب الجبهة نفت نفسها بنفسها منذ ولادة الجبهة ، لكونها لم تعبر عن شريحة مجتمعية مستقلة ، والحزب إذا لم يعبر عن مصلحة اجتماعية يكون أقرب إلى مجموعة تأسست بقصه النفع أو الانتفاع . قلت قبل قليل إن وجود البعث ليس قانونيا ، لأنه لا يوجد قانون أحزاب في سوريا ، والحقيقة إن الحزب الوحيد الموجود لدينا هو حزب الأمن ، الذي يخترق الأحزاب والسلطة والدولة والمجتمع ، ويوجد بطريقة فاعلة في كل مكان ، ويعمل بصورة منظمة ويمسك بمفاتيح البلد .
س- تطرح المعارضة اليوم مشروعها للحوار الوطني الديموقراطي . ألا تعتقد أن مفهوم المعارضة يتطلب مشروعا بديلا عن الحكم ؟.
ج- هذا المشروع ، الذي نقدمه ، هو بديل مشروع الحكم ، إن كان لديه مشروع . ومشروع المعارضة ليس قصده مناكفة النظام ، بل هو مشروع وطني جامع هدفه إيجاد حلول للمشكلات الوطنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ... الخ ، التي أنجبتها سياسات الحكم ذاته . من هنا ، يمكن القول إن المعارضة ترى الأمور بمنظار يتخطى موقفها من النظام إلى مصلحة الوطن كله ، وهي تتحمل مسؤولية وطنية متعاظمة في كل شأن ، بينما لا يرى النظام غير مصالحه ونفسه ، واعتاد منذ فترة طويلة أن يعتبر نفسه مساويا للوطن ، وهو لا يريد أن يتخلى عن هذه العادة السيئة . لسنا مناكفين للنظام ، نحن الجهة التي تسعى إلى إيجاد حلول لمشكلات الوطن ، التي زجه النظام فيها ، ونحن نعتقد أن المخرج الوطني يمر اليوم بالتعاون مع النظام ، لذلك نطرح عليه فكرة التعاون وبرنامجه ، ليس من أجل أن ندخل الجبهة الوطنية ، بل كي ننقذ بلادنا ونأخذها إلى وضع لا تكون خاضعة فيه لأحد .
س – أليس إنقاذ النظام بهذا النهج الذي تتحدث عنه إنقاذا للنظام ذاته ؟.
ج- سيكون تغييرا للنظام بالتوافق معه ، ربما مع بقاء جهات وأوساط حزبية في السلطة ، لكن النظام الحالي لنم يبقى ، وهو لن يبقى حتى لو لم نكون نحن موجودين ، وذهابه لا علاقة له بنا ، وهو على علاقة بأبنيته وتكوينه ، فلا نحن ولا غيرنا قادرين على إنقاذه ، ولا أهله أنفسهم يتصرفون بهذه الروحية ، وإلا ما معنى تبني الحزب في مؤتمره العاشر اقتصاد السوق الاجتماعي ، الذي قال الدردري إنه سيغير أيديولوجية النظام وفكر الحزب ؟. وماذا يبقى من نظام غير اقتصاده ونظامه الأيديولوجي ؟. نحن نستطيع المساعدة على انتقال البلد إلى حال آخر ، يتخلص فيه من المفاسد ، ونريد مساعدته بطريقة غير انقلابية ، ولا نسعى إلى خوض صراع مباشر معه ، بل نريد تكوين كتلة تاريخية ، وتطوير خطة انتقال آمن وسلمي يوصلنا إلى واقع مختلف . وأعتقد أن هذه السياسة مارست ضغوطا جدية على النظام في السنوات الأخيرة ، لأنها توافقت مع تطور منعين داخل البعث ، جعل الإصلاح مطلبا وطنيا ، وأدى إلى أخذ قرارات وتوصيات مؤتمر البعث الأخير بدلالة المطالب الشعبية ومطالب المعارضة ، وهو أمر يحدث لأول مرة منذ عام 1963 ، وهي فترة طويلة كان البعث لا يرى فيها أحدا غير نفسه ، ولا يرى شعبا أو معارضة ، وكان يعتقد أنه الدنيا كلها . واليوم ، نلاحظ أن كل ما تقرر وأن الحلول التي اقترحت تمت في ضوء ما يطالب به الشعب وتطالب به المعارضة .
س- ولكن ما هو تفسيرك لطرح مسألة مكافحة الفساد في المؤتمر العاشر للبعث, الا يشير ذلك الى ان البعث حتى في هذه المسألة لا يريد ان يشرك أحدا معه وانه هو الوحيد المخول بمعالجة مشكلة الفساد, والتي هي قضية وطنية اولا واخيرا ?
ج- هذه لم تكن مشكلة إلى ما قبل سنوات قليلة . قبل سنوات لم يكن البعث يعترف بالفساد.. كان يقال ان البعث حزب طليعي يقوم بتجربة تاريخية كبرى , فلم الحديث عن الفساد !. والآن ، أن يكون الفساد واحدا من موضوعات مؤتمر البعث الأساسية ، وان يسقط شعار التجربة التاريخية الكبرى ولا يذكر بكلمة واحدة ويتم التركيز على نواقص الحزب, هذا منجز كبير من منجزات المعارضة والواقع والوعي الشعبي, وتفتح عقول الناس وأذهانهم ومطالبتهم المتزايدة بالتغيير.
س- كم كان للاصوات الخارجية دور برفع صوت المعارضة في الداخل, واريد ان تجيبني بصراحة?
سأجيبك بصراحة.. بدأنا المطالبة بالتغيير عام 1976، وبرنامج التغيير الديمقراطي وضع للمرة الاولى في ذلك العام, وكتب عنه للمرة الاولى في افتتاحية جريدة نضال الشعب التي كان يصدرها الحزب الشيوعي السوري بزعامة رياض الترك سنة 1976 ، حين كان الأميركيون مع النظام . منذ ذلك التاريخ وحتى قبل مايو 2003 لم يكن الأميركيون يريدون الاصلاح والتغيير ، وما يقال اليوم يؤكد رغبتهم في الحفاظ على النظام. بالامس كان هناك كلام عن اجتماع باريس بين وزراء خارجية اميركا وفرنسا وبريطانيا ، الذي اتفقوا فيه على ان لا يغيروا النظام بل سلوكه . من جهة اخرى ، لعب الخارج دورا كبيرا في نزع الغطاء الدولي عن النظام ، الذي يفتقد الآن لغطاء دولي وليس لديه غطاء عربي ولا يملك ، كما أعتقد غطاء داخليا . وهذه مسالة مهمة جدا.
س- هل الغطاء الخارجي مهم كثيرا للنظام... وهل ياخذه بالاعتبار?
ج- طبعا ، لانه انطلاقا من هذا الغطاء الخارجي كانت تتم موازنة الوضع الداخلي . وكان النظام يعيد انطلاقا من دوره الاقليمي انتاج الوضع الداخلي.. كأن يسجن الناس بحجة انهم يقاومونه بينما يقوم بتحرير الارض ويتصدى للمؤامرة الصهيونية في لبنان. لعب الخارج دورا كبيرا في بناء الداخل, هنا وفي الدول العربية الأخرى ، وكان دوره كبيرا في اعادة انتاج النظم داخليا . انظر الى مصر حيث تكاد الامور تكون ملحوظة وواضحة بالتفاصيل التكتيكية لكل شيء . وعندنا يحدث الشيء نفسه . اذا رفع الغطاء الدولي عن النظام كشفه وأضعفه كثيرا . لكن هذا ليس هو سبب مطالبتنا بالتغيير الديمقراطي ، فمنذ العام 1976 ذهب الناس افواجا متلاحقة الى السجون من اجل التغيير الديمقراطي ، لكننا الان نتعامل مع الواقع بروح مختلفة عن روح السبعينات ، في ذلك الوقت كان التغيير الديمقراطي يعني اسقاط النظام وبالتالي معركة داخلية كبيرة , نحن الان خائفون على بلدنا من الفوضى ومن السقوط تحت الاحتلال ، لذلك نقول بحل مشكلات البلد باعتباره اولوية وندعوا إلى تحمل الوضع الحالي ريثما يتم الانتقال الى وضع مختلف ، عبر الضغط الشعبي ودون اي ضغط خارجي ، لا نملك السيطرة عليه.
س- لو لم يحصل ما حصل في العراق وهو ماثل امامنا هل يمكن ان تكونوا خائفين على البلد والوطن بهذه الطريقة?
ج- نعم بدون شك . نحن خائفون على البلد وسأقدم لك مقالات انا كتبتها وغيري قبل دخول الأميركيين الى العراق وبدءا من عام 1991 عندما انهار الاتحاد السوفياتي ، تقول ان الاساس الدولي الذي انجب وضمن النظام ذهب ، وانه يجب ملاقاة هذا المتغير الدولي المهم عبر تغيير في الداخل يمتص الاختلال الهائل في توازنات القوى الدولية من خلال تعبئة الداخل على اسس مختلفة عن الاسس التي يقوم عليها نظام البعث الحالي . قلنا هذا منذ التسعينات وكتبناه ، وقلناه قبل سقوط العراق ، عندما كانت اميركا مع النظام وكان لديه قناعة ان الأميركيين لن يغيروا ، لذلك كان مرتاحا ومطمئنا . قبل خروجه من لبنان كان النظام يقول: لا ،لا ، لا تخافوا ، هناك اتفاقات تحت الطاولة ولن يصوت للقرار 1559. قال فاروق الشرع : سأقطع يدي اذا صوتوا للقرار1559 وزعم أن لديه اغلبية ضده ، كما كانت هناك مقالات عديدة في هذا المنحى كتبها بهجت سليمان وغيره ، تقول ما معناه : هناك اتفاقات كاملة مع الأميركيين تتم تحت الطاولة ، وسنبقى في لبنان.. لأن بقاءنا ضروري لامن اسرائيل واميركا والشرق الاوسط ، واذا ارادوا ان نتعاون معهم في العراق فسنتعاون .
س- هل طال الفساد القضاء في سورية والى اي درجة?
ج- طال كل مرفق من مرافق الحياة العامة ، وطال السلطة والدولة والمجتمع في سورية, والفساد سيقضي على سورية اذا استمر ، وانا لا ابالغ في هذا الكلام. لأخذ فكرة عن معنى الفساد ، يجب أن تعلم أن جميع مساعدي ياسر عرفات غادروا سورية من مطار دمشق الدولي بخمسمائة ليرة للواحد للرأس ، كما قيل آنذاك ، مع أنهم كانوا مطلوبين للاعتقال. أما ما حصل في لبنان ، فهو أن عصبة من الفاسدين، الذين كانوا يمسكون بالسياسة في لبنان، دمروا سياسة سورية في لبنان وفرصها في ان تبني سياسة صحيحة مع هذا البلد . اذا دخلت الى اي دائرة من دوائر الدولة ولم تدفع نقودا ، فلا يمكن حل موضوعك ولا احد يستمع لك ومن المستحيل ان تنجز اي معاملة بدون رشوة . وقد اصبح شيئا طبيعيا انه عندما تذهب لقبض راتبك ان تعطي المحاسب 50 ليرة كي لا يجعلك تنتظر لساعات ، كما اصبح طبيعيا قبل ذهابك الى اي مكان ان ترسل مراسيلك ونقودك وهداياك ورشاويك.الفساد بكل انواعه : السياسي, والثقافي, والروحي, والاقتصادي..الخ يدمر البلد ويجهز عليه . سورية في وضع صعب ، لان مفاعيل السياسة التي تحدثت عنها ، والتي مارسها البعث طيلة اربعين عاما تتجسد في الفساد الذي يصير هكذا محصلة كبرى لسياساته.
س- ما سبب انتشار الفساد بهذا الشكل المخيف برأيكم.. وهل تقع المسؤولية فقط على عاتق البعث?
ج- انه نتاج النظم السياسية. لماذا لم يوجد منذ عشرين عاما في سورية حجم الفساد الموجود حاليا, ومنذ خمسين عاما لم يكن يوجد في سورية اي نوع من الفساد تقريبا . صحيح أنك كنت تستطيع إعطاء شرطي ما رشوة بسيطة ، اما ان تستطيع ان ترشي وزيراً ومدير عام دائرة ومحافظ هذا كان من المستحيل . من علامات الفساد أن محافظ حمص هدد بالأمس خمسة نواب في البرلمان بنزع حصانتهم , مع أنه ليس من صلاحيات رئيس جمهورية فعل ذلك ، ويقال إن هذا المحافظ خسر 280 مليون ليرة مع شركة الديري في حلب ? لقد كان مدير استراحة وهو يملك اليوم ملايين الليرات ، ومن اجله اوقفت صحيفة المبكي ، بعد أن كتبت عنه. كم هو فظيع هذا القدر من الفساد. ان الدولة تقوم بما يشبه الفضيحة مع النواب الذين اختارتهم ومع وسائل الاعلام والصحافيين والمثقفين ومن اجل شخص فاسد قد لا يساوي شيئا ، لكنه صار محافظا .
س- ما تفسيرك لتوجه بعض المثقفين باتجاه الغرب واميركا, وخصوصاً بعض اليساريين, ما الذي حدث وتغير في السياسة الأميركية حتى غير المثقفون موقفهم منها?
ج- اعتقد ان هذا التطور حدث مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي اوائل التسعينات, اقول هنا : المثقف الذي كان قوميا اشتراكيا أو معاديا للغرب وللرأسمالية ، والذي خدع بالتجربة الداخلية والتجربة السوفياتية ، وكان يراهن على كذبة واكتشف انه كان مضحوكا عليه , اعتقد انه نوع من رد الفعل النفسي على واقعه , على وضعه , على الخديعة التي تعرض لها , ان يعلن انتماءه إلى الجانب الاخر ، إلى النقيض . هناك ، على كل حال ثلاث حركات حصلت: حركة مثقفين ذهبوا الى الغرب بحجة النهضة وعصر نهضوي وبذريعة أن الراسمالية هي الثورة الوحيدة الناجحة في التاريخ، والطبقة الوسطى هي الطبقة الوحيدة الثورية التي قامت بثورة عبر التاريخ.
المهم أن هؤلاء وجدوا المبررات لخيارهم. وهناك حركة أخذت قسما هائلا باتجاه التدين والاسلام ، واعتقد ان هناك تيارنا الديموقراطي ، الذي بقي على خياراته التقدمية والإنسانية ، وهو اقدم من انهيار السوفييت وفشل التجربة المحلية بكثير ، وقد انفك عن هذه التجربة وعن التجربة السوفياتية وقال ان ما نراه ليس تجربة اشتراكية , لكنه أصر على حق العرب في الوحدة والحرية ورأى في الديمقراطية رافعة ومدخل العصر الحديث, دون أن يصير معاديا للغرب, وإن بقي معاديا لسياسته وليس لثقافته وحضارته وللمنجز التاريخي الهائل الذي يمثله .بالمناسبة ، نحن لم نهاجم الطبقة الوسطى في بلداننا ، وهذه المقالات لو قراءتها لوجدتها تدافع عن هذه الطبقة. نحن بقينا متوازنين ، فنحن لسنا منجذبين للغرب ولسنا معادين له, ولا نحن مبهورين بالغرب ولسنا مهووسين بالعداء له, وبراينا ان كل ما يمكن ان تفعله الان في العالم فانك ستفعله ضمن اطار عالمي هو بشكل اساسي رأسمالي, لكن هل تفعله باعتبارك نكرة ولا شيء في هذا العالم ، ام تفعله باعتبارك صاحب مشروع وحالة لها خصوصيتها وكيانيتها وهويتها ، وبالتالي لها مطالبها ودورها ، ويجب ان تكون لها وظيفة من مهام المثقف تعريفك بها وبلورتها، وهل تبلورها باعتبارك اداة بيد اميركا وجزء من مشروع اميركي ام باعتبارك حامل خيار ديمقراطي يستهدف تقوية العرب وتحررهم وبالتالي ردع وصد الهجمة الاميركية على المنطقة العربية : عنيت الهجمة العسكرية الاميركية على المنطقة وليس التفاعل مع الولايات المتحدة ومع الاقتصاد العالمي والثقافة العالمية.. نحن حملة هذا الخيار الديمقراطي لكننا لسنا اعداء الغرب.
س- في قراءة دقيقة للوضع الراهن.. لماذا الان وبعد احتلال العراق اشتدت الهجمة وتزايدت الضغوط على سورية?
ج- المناسبة كنت اتمنى ان يصدقنا النظام , النظام حتى الان لا يصدق تحذيراتنا من أميركا ، ويعتقد اننا نبالغ حتى نضغط عليه ونجبره على القيام بالتغيير. ساعطيك مقالة عنوانها "سد الثقب الاسود " هي تلخيص لكتاب وضعه عام 1972 بريجنسكي مستشار الرئيس كارتر للأمن القومي . يقول المستشار : إذا لم نوجد وجودا عسكريا مباشرا في المنطقة التي تصل المتوسط بالصين ، بعد أن نوجد في البلقان ووسط افريقيا ،ونفصل روسيا عن غرب اوروبا وناخذ موطئ قدم في افغانستان وجمهوريات اسيا الوسطى لفصل الصين عن روسيا.
واذا لم نوجد في منطقة العراق وسورية ولبنان ثم ايران، فان الولايات المتحدة الأميركية أول قوة في تاريخ العالم تسيطر على المجال الاوراسي من خارجه ، ستكون معرضة لمفاعيل ثقب سياسي أسود سيمتص قوتها الكونية وسيطيح بها خلال فترة قصيرة وسيحول بينها وبين السيطرة على تناقضات وتوافقات المجال الاوراسي وعلى قواه.
وقد قلنا منذ اليوم الاول : بعد العراق سياتي دور سورية ولبنان ، وبعد سورية ولبنان ، سيأتي دور ايران, فافتحوا عيونكم.. القصة اكبر بكثير من ان تكون قصة ان الاميركان يريدون ان يخلعوا ديكتاتورية اسمه صدام حسين وأكبر من أكذوبة اسلحة الدمار الشامل ، وذريعة الارهاب والاستبداد، التي
جعلت العالم المتطور يتعاطف معهم ومع سياستهم . هذه الاستراتيجية وضعت في السبعينات عندما كان صدام حسين صديق أميركا وكان يلعب التنس مع الأميركيين في القصر الجمهوري ببغداد.
قلنا إن سورية سيأتي دورها , وإن السياسة الانانية التي لا تأخذ بعين الاعتبار الواقع ولا تقبل المصالحة الوطنية ولا التعددية السياسية وتعبئة البلد على اسس مختلفة عن اسس البعث الحالية ،وتعتقد انها تستطيع ان تقاوم بالنظام الامني وسياساته , لن تقوى على حماية البلد ، لأن القوى الدولية صنعت النظام الاقليمي بمجمله ، ومنه النظام السوري ، الذي لن يكسب معركته معها بقوامه الحالي.
من هنا اقول ، اننا وضعنا الوطن فوق كل شيء وأننا نخاف عليه من هذه السياسة ومن الحسابات الصغيرة, الحسابات الخاصة التي جعلت النظام لا يرى هذه اللعبة الكبيرة وكم ستؤدي الى تكسير سورية , ورأيي في النهاية ان سورية ليس لها الا شعبها, فالنظام يبدو وكأنه رماها خلف ظهره ، لذلك لن ينقذها الا شعبها في إطار من التغيير الحقيقي ، السياسي أولا وأخيرا .في هذا السياق نحن نحاول ان نضع خطابا يعبئ الشعب والمجتمع من اجل انقاذ الوطن.
س- مرحلتان وسمتا السنوات الاخيرة من عمر سورية, الاولى بعد تسلم الرئيس بشار الاسد مقاليد السلطة, والثانية بعد انتهاء اعمال المؤتمر القطري العاشر للبعث, هل تفاءلت بعد هاتين المرحلتين.. وكيف ترى سورية انطلاقا من نتائج المؤتمر العاشر.. هل تدعو الى التفاؤل?
ج- باعتقادي انها بين بين . النتائج اقل مما كان متوقعا. صحيح انها تمت في حاضنة المطالب الشعبية والمعارضة لكنها لم تلبِ هذه المطالب في اية نقطة . واتصور انه كي تلبيها لا يكفي أن يتخلص الرئيس من قيادة الحزب القديمة وأن يأتي بقيادة جديدة ، بل يجب أن تعمل هذه كقيادة اصلاحية قادرة على ترجمة التوصيات العامة التي صدرت عن المؤتمر الى برنامج اصلاح حقيقي ، وهذا ممكن عبر الانفتاح على المجتمع السوري بالاتفاق مع المعارضة السورية الوطنية والقوى التي تريد اخراج البلد من مازقه الراهن وهي كثيرة في سورية.
س- هل تغيير الوجوه الذي تحدثت عنه يعني شيئا أو بمستوى الاهمية المطلوبة للخلاص?
الذين ذهبوا هم في معظمهم رموز للفساد المستشري.
وماذا عن القادمين الجدد?
ج- قد يكونون اكثر سوءا ولكن لا احد يعرفهم . لقد ذهب رموز الفساد المستشري ، وذهابهم يعني ذهاب النموذج التقليدي للبعث ، لانهم جميعا كانوا متمسكين بصورة الدولة الامنية الاشتراكية القومية.. دولة القطاع العام التي بناها الحزب . اعتقد ان ذهابهم هو تسليم بهزيمة هذا النموذج , وسورية والنظام والرئيس مواجهون الان بضرورة ان يقدموا نموذجهم البديل . لم يعد ممكنا اليوم القول بوجود حرس قديم ، لأنه لم يبق له وجود. والان، يجب ان يظهر ما لدى الحرس الجديد ، لان هناك اشياء كثيرة حسمت داخل السلطة.
س- قام بعض ضباط الامن باستضافة بعض الكتاب والمثقفين وغالب الظن انه كان يتم توجيههم بالكتابة في مجالات معينة وواحد من هؤلاء بهجت سليمان ، الذي يقال إنه كان يستقبل العديد منهم, وإن المثقفين فقدوا سندا لهم في السلطة بذهابه . ما رأيك بذلك?
ج- بالمناسبة ، ليس بهجت سليمان صديقا لي ، ولم يكن صديقا لي ولن يكون ، لا هو ولا اي ضابط مخابرات في البلد, انا رجل لي هوية على قدر كبير من الوضوح ، أحافظ عليها بحرص منذ العام 1972 ، والنظام يعلم انني كنت واحدا من مؤسسي المعارضة ، وانني ابو حراك المجتمع المدني وهذا التيار الثقافي الديمقراطي الذي تكلمت عنه قبل قليل . ليس لي صلة أو علاقة شخصية أو عامة ، ثقافية أو سياسية ،باي كان من الأجهزة . ومن كان لديه قرينة أو برهان أو حجة أو اثبات حول علاقتي بواحد من هؤلاء فليعلن ذلك حتى اقيم عليه دعوى وألاحقه قانونيا .
س- انا لم اقصدك شخصيا!!
ج- اعرف ذلك ، ولكن هنالك من يروج لهذا . انا كنت واحدا من الذين تحدثوا عن ضرورة الحوار الوطني بشكل مبكر، بل اعتقد انني كنت اول من تكلم بهذا الموضوع, والقصة أنني ذهبت برفقة صديقين يوم 13 أيلول 2003 الى مكتب بهجت سليمان للاحتجاج على الاعتقالات التي تعرض لها نشطاء ربيع دمشق, وذهبنا واحتججنا باكثر الكلمات شدةً وعنفا على تلك الاعتقالات وقلت له: اما انكم اليوم في 26 فبراير 1982 داعسين حماة والشعب السوري , وفي هذه الحالة لماذا تتكلمون عن الاصلاح، أو أن هناك مليون مشكلة في سوريا اليوم ولكن لا يوجد مشكلة امنية.. وفي هذه الحالة ، لماذا تقومون باعتقال الناس ؟. انتم اول نظام في التاريخ السوري المعاصر يعتقل المثقف باعتباره مثقفاً . وبالمناسبة نحن لم نأت لأننا خائفين , اذا كنتم تريدون الان ان ننزل الى القبو ، فإننا سننزل . واذا اردتم معالجة الأمور أمنيا ، فنحن حربتنا ليست ، وقد قومنا الحلول الأمنية في ظروف صعبة جدا . يشهد على ذلك اصدقاء كانوا موجودين.. ثم لم ارَ الرجل ولم يرني بعد ذلك . هذه كانت المسألة ، وانتهى الامر عند ذلك.
وانا اليوم سأصدر تصريحا لان رافي ماديان ابن زوجة جورج حاوي قال في احدى المحطات ان الاطاحة ببهجت سليمان هو ازاحة للتيار المعتدل في المخابرات السورية حيث كان يحاور المثقفين من تيار ميشيل كيلو ، وهذا كلام غير صحيح. لقد كان يتحدث من باب الاشادة ببهجت سليمان ، الذي لم نحاوره ولم يحاورنا ولم يحاور غير أصدقائه واتباعه ومن تربطهم علاقة به , ولم تكن بيننا وبينه اية صلة .
س- هل تتوقع ان يصدر رئيس الجمهورية عفوا عاما في السابع عشر من يوليو بمناسبة تسلمه الحكم?
ج- هناك اشاعات تقول انه خلال شهر لن يبقى احد في السجون . اتمنى ان يصدر العفو ويصدر امر بعدم اعتقال اي موطن سوري بسبب رأيه.. ماذا يعني العفو إذا كان الرئيس يعفو عن الناس وغيره يعيدهم الى السجن.