لا ينسى اللبنانيون ان المملكة العربية السعودية ساعدتهم كثيرا قبل اندلاع الحروب الاهلية وغير الاهلية في بلادهم. اذ فتحت ابوابها للمهارات اللبنانية والعمال اللبنانيين ورجال الاعمال وحتى لرجال السياسة واولتهم عنايتها فقدموا اليها في مرحلة نموها والنهوض الكثير وقدمت لهم في المقابل العمل والامان والاكتفاء المادي وقدمت الى بعضهم الثروة والجاه وفتحت لبعضهم الآخر ابواب العمل السياسي بل الزعامة السياسية على مصراعيها كما يقال. ولا ينسى اللبنانيون ان المملكة العربية السعودية بذلت جهودا كبيرة جدا اثناء تلك الحروب لوقفها. فمن جهة وظفت علاقاتها الجيدة مع معظم القيادات السياسية والحزبية والدينية ولاحقا الميليشيوية في لبنان لاقناعهم بان استمرار اقتتالهم سواء بالأصالة عن انفسهم او بالوكالة عن الخارجين العربي - الاقليمي والدولي لن يحقق سوى نتيجة واحدة هي انهيار اقتصادهم ودمار بلادهم بل نهاية عيشهم المشترك الذي لا يستمر الوطن والكيان اللبنانيين من دونه. ومن جهة اخرى وظفت علاقاتها مع الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان بزعامة ياسر عرفات بغية اقناعه بالتوصل الى تفاهم مع لبنان يحترم سيادته واستقلاله وتركيبته الدقيقة والمعقدة ويحمي المقاومة الفلسطينية في الوقت نفسه ويبقي قضية الشعب الفلسطيني حية في قلوب جميع اللبنانيين وممارساتهم. ومن جهة ثالثة وظفت علاقاتها الجيدة مع سوريا الفاعلة في لبنان وخصوصا بعدما دخلته رسميا سياسيا وعسكريا وامنيا بغية اقناعها بتوظيف فاعليتها فيه بطريقة تحميها وتحفظ مصالحها وتفسح في المجال في الوقت امام التقاطه انفاسه واستعادته سلمه الاهلي ووحدته الوطنية. ومن جهة رابعة وظفت علاقتها الجيدة بالمجتمع الدولي بل تحالفها مع اهم دولة فيه واقواها واغناها الولايات المتحدة بغية اقناعها بايلاء لبنان وقضيته بعض الاهتمام سواء بالتدخل اولا مع اسرائيل حليفها الاستراتيجي الاول في الشرق الاوسط كي تنهي احتلالها قسما من اراضيه التي تحتل او بالعمل مع الجهات الاقليمية المتدخلة فيه ومنها سوريا لجعلها تدرك ان مصلحتها تكمن في عودة لبنان المعافى والسيد والمستقل والحر والمسالم والمزدهر.
طبعا لا ينسى اللبنانيون في الوقت نفسه ان جهود المملكة العربية السعودية لم تنجح في تحقيق الاهداف اللبنانية لسياستها رغم جهودها التي استمرت اعواما كثيرة. ويعرفون في الوقت نفسه ان عدم نجاحها تسبب به عاملان. الاول، حدة الانقسامات في الداخل اللبناني التي جعلت التفاهم بين اطرافه صعبا واحيانا مستحيلاً وخصوصا بعدما روج البعض ان للتدخل السعودي او لمحاولة المساعدة السعودية خلفيات طائفية او مذهبية او اقليمية يتعلق معظمها بالتناحر داخل الصف العربي الواحد او الذي يفترض ان يكون واحدا. والثاني، "طبع" المملكة وحكامها اذا جاز التعبير على هذا النحو. ومن عناصر هذا "الطبع" الاقدام والاندفاع في المساعدة طالما كان ذلك متاحا وغير معترض عليه من القوى الاساسية من محلية وعربية. ومن عناصره ايضا الانكفاء تلافيا لدخول دوامة الصراعات سواء مع اهل الداخل اللبناني او مع اهل الخارج وخصوصا اذا كانوا من الاشقاء ومحافظة على امكان محاولة المساعدة من جديد اذا توافرت الظروف الملائمة. لكنهم يعرفون ايضا ان المملكة لم توفر فرصة لاحت في الافق للعودة الى المساعدة. وكانت اهم فرصة للبنانيين عام 1989 عندما بلغ التدهور والعنف في لبنان حدا لا يطاق داخليا وحدا لا يطاق اقليميا ودوليا نظرا الى الانعكاسات السلبية على المنطقة التي لا بد ان يرتبها استمراره. وقفزت المملكة على هذه الفرصة مع شريكيها في لجنة عربية ثلاثية كانت مكلفة مساعدة اللبنانيين على وقف حربهم ووضعهم على طريق حل مشكلاتهم وخلافاتهم هما المغرب والجزائر. ونجح الثلاثة في "توليد" اتفاق الطائف الذي انهى الحرب وان بعد نحو سنة من التوصل اليه وارسى اسس قيامة لبنان الجديد. كما انها رعت عملية اعادة البناء والاعمار في لبنان بعد انطلاقها. ونجحت في ذلك نظرا الى العلاقة الوثيقة التي كانت قامت قبل ذلك بكثير بين عاهلها الذي رحل الى جوار ربه الاثنين الماضي الملك فهد بن عبد العزيز والرئيس رفيق الحريري والتي استمرت الى يوم استشهاده والتي انتقلت منه الى اشقائه في المملكة وفي مقدمهم الملك عبدالله بن عبد العزيز.
لماذا هذا الكلام الآن؟
لأن الوفاء ومن منطلق وطني لبناني محض وليس من اي منطلق اخر يفرض الاعتراف بالحقيقة المفصلة اعلاه في مرحلة الانتقال الجارية في العربية السعودية حاليا، وهو انتقال سهل اذا كان المقصود به ترتيب امور الخلافة بعد وفاة الراحل. وقد ثبت ذلك في الايام القليلة الماضية. الا انه انتقال صعب اذا كان المقصود به اضطرار المملكة الى مواجهة تحديات ضخمة بل هائلة، علما ان هذه المواجهة بدأت، ابرزها ثلاث. الاول، التصدي للارهاب الذي تعانيه داخل اراضيها والذي نال العالم الكثير منه منذ اعوام ولا يزال ينتظره منه الكثير. ونجاح المملكة على الاقل حتى الآن في التصدي المذكور لا يلغي صعوبته، ذلك انها ناجمة عن الخلفية الدينية المشتركة لكل من المملكة والارهابيين. فالفريقان ينتميان الى الاسلام المحافظ الذي يطلق عليه اسم "الوهابي". وكل منهما يتهم الاخر بتجاوزه او بتجاهله او بعدم التقيد باحكامه. ونجاح اي منهما في معركته مع الاخر يرتبط بمدى نجاحه في اقناع الشعب السعودي او غالبيته بصوابية مواقفه وتصرفاته وسياسته. ويبدو حتى الآن على الاقل ان النظام السعودي حقق نجاحات مهمة سواء على صعيد التصدي المباشر ولمن يعتبرهم ارهابيين وخارجين عن الاسلام او على صعيد تعبئة الشعب ضدهم. والثاني، نجاح المملكة في تنفيذ اصلاحات اساسية متنوعة سياسية واجتماعية اولا لانها صارت في امس الحاجة اليها. ثانيا لان المجتمع الدولي "الجديد" اذا جاز التعبير يطالبها بذلك ومنذ سنوات وصار ملحاحا في هذا الطلب. والنجاح لن يتحقق الا اذا كان المسؤولون السعوديون صادقين في الاصلاح، والا اذا توصلوا الى صيغة اصلاحية توفق بين الحداثة والعصرنة على كل الصعد وبين قيم الاسلام وتقاليد المجتمع السعودي المحافظ، والا اذا اقنعوا المجتمع الدولي الذي يرتبطون مع زعيمته اميركا بعلاقة تحالفية استراتيجية عميقة بان الاصلاح عملية بطيئة ومتدرجة ولكن ثابتة وبأن المحاولات الاصلاحية الناجحة هي التي تنبع من داخل كل دولة ومجتمع لا التي تفرض من الخارج. فالدول والمجتمعات ليست نسخا متطابقة. اما التحدي الثالث، فهو المذهبية الاسلامية اذا جاز التعبير التي لم تخلقها حرب العراق لانها كانت موجودة منذ عقود أو قرون بل اخرجتها من "القمقم". والدور المطلوب من السعودية على هذا الصعيد هو مساعدة العراقيين على اعادتها الى هذا "القمقم" محافظة على المنطقة العربية ومحافظة على نفسها ايضا.
ماذا يملك اللبنانيون ان يقدموا الى المملكة العربية السعودية اثناء مواجهتها التحديات الثلاثة المشروحة اعلاه؟
الدعاء بالنجاح في هذه المواجهة اولا. والصلاة ثانيا. وثالثا الابتعاد عن "الحرتقة" او "الحركشة" بالمملكة وخصوصا ان جهات عدة فيهم متنوعة الانتماءات السياسية والمذهبية يمكن اعتبارها جزءا من الذين يشكلون تحديات لها داخل ارضها او خارجها.