حفلت الأشهر القليلة الماضية التي أعقبت المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث بسلسلة من الإجراءات والمواقف التي تستهدف المعارضة السورية بمكوناتها الثلاثة الرئيسية، التنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان
وأخيرا مجموعات المثقفين النقديين الذين انخرطوا لسبب أو آخر في العمل الوطني وأصبحوا إلى حد كبير المحرك الرئيسي له.
تصب جميع هذه الإجراءات في ما أطلق عليه قرار اتخذ على ما يبدو في مؤتمر الحزب يدعو إلى "تعرية المعارضة". وهو ما يتضمن حسب ما شهدنا في الأشهر الماضية تخلي أجهزة الأمن عن موقف غض النظر النسبي عن بعض نشاطات المعارضة المحدودة أصلا وتبني موقف المواجهة والتصدي.
ومن باب المواجهة اللجوء المكثف إلى حملات الاعتقال الجماعي والفردي من قبل أجهزة الأمن وفي إطار أحكام الطوارئ، الذي يعيد الحياة إلى نظام التجريم السريع والسهل لدى محاكم أمن الدولة.
ومنه أيضا كسر الاعتصامات البسيطة التي تدعو إليها منظمات حقوق الإنسان ويشارك فيها في أحسن الأحوال بضع عشرات من المثقفين للتذكير بحقوق المعتقلين أو بطلب الإفراج عنهم بالقوة وعدم التردد في ضرب المثقفين وإهانتهم من قبل منظمات الحزب الحاكم المنظمة والموجهة، ومنها أيضا الملاحقات والاستدعاءات الأمنية اليومية للمثقفين والناشطين الحقوقيين بذرائع وهمية مثل تجاوز الخطوط الحمر والثوابت الوطنية التي أصبحت توضع موضع القانون وتبرر للأجهزة الأمنية إيقاف من تريد وكيف ما تريد من الناشطين.
ومنها أيضا إغلاق آخر المنتديات والسعي إلى منع أي شكل من أشكال التعبير المستقل على أي مستوى كان وفي أي مكان. ومنها أخيرا العودة إلى ممارسات تنتمي إلى حقبة الثمانينيات الأليمة مثل اعتقال أفراد العائلة لمجرد مطالبتهم بالإفراج عن أقاربهم من إخوتهم أو آبائهم أو أبنائهم.
ومنها كذلك تجنيد بعض الأقلام للتشهير بالمثقفين وتشويه سمعتهم وتهديدهم على صفحات الجرائد الإليكترونية والمكتوبة وتوجيه التهم المزورة لهم بالتعامل مع الدول والمخابرات الأجنبية أو بالضلوع معها في التآمر على المصالح الوطنية.
من دون شك تعكس موجة القمع الجديدة الواسعة حالة القلق والاضطراب التي يعيشها النظام بسبب المأزق الذي وصل إليه والذي يتجلى بشكل واضح في خسارته جميع حلفائه العرب والدوليين وتزايد الاحتجاجات العلنية والخفية داخل قاعدته السياسية وفقدانه جميع آماله في إنجاح برنامج الإصلاح الاقتصادي والإداري الذي راهن عليه لتبرير استمراره وتجديد شرعيته.
ومن هنا، تشكل هذه الحملة رد فعل طبيعيا ومفهوم على الخوف الذي أخذ يستبد بالنظام الذي لم يعرف في حياته ظروف الضيق والتراجع واعتاد أن يعمل طويلا ضمن هامش واسع جدا من حرية الحركة والتفاهمات العربية والإقليمية والدولية تسمح له بأن يتجاوز من دون صعوبات وتكاليف كبيرة جميع المخانق والتناقضات وأخطاء التقدير على المستويين الداخلي والخارجي.
وتهدف هذه الحملة إلى خلق ما يسمى بآلية كبش المحرقة أو الفداء التي تقوم على حرف الأنظار عن المصاعب التي يشهدها النظام بتوجيه الاتهامات نحو أطراف ليست هي المسؤولة عن هذه المصاعب، وبالتالي تحويلها إلى ضحية رمزية تغني عن التصدي للأطراف الحقيقية المسؤولة عن المصاعب وتكون بمثابة انتقام بديل منها. وهناك أسباب عديدة تدعو إلى الخوف من أن تسير السلطة البعثية في اتجاه تحويل المعارضة السورية وعلى رأسها المثقفون إلى كبش فداء يرمي إلى تحقيق هدفين معا.
الأول: طمس مسؤولياتها هي نفسها في إيصال الأوضاع السورية إلى ما هي عليه. والثاني: التغطية على العجز عن مواجهة الخصم الحقيقي الذي لا تستطيع أن تؤثر عليه، أعني التحالف الأوروبي الأميركي الذي يشكل الطرف الفاعل والمبلور للسياسات التي وضعت النظام السوري في المأزق الراهن.
وخطر مثل هذا السلوك في أوساط الحكم السوري لا ينبع من أنه يهدد بأن يزيد من آلام السوريين الملاحقين وعذاباتهم لأتفه الأسباب فحسب، ولكن أكثر من ذلك ينبع من أنه يهدد بأن يقود إلى عكس النتائج المتوخاة منه ويصب في طاحونة القوى الأجنبية الضاغطة على سورية والمهددة لها.
فالبحث عن كبش فداء نوع من رد الفعل المرضي الذي يهدف إلى إرضاء النفس والتغطية على عجزها من خلال اختلاق خطر وهمي سهل والانتصار عليه، وهو ما يوحي بإمكانية توفير الجهد المطلوب لبلورة رد سوي وعقلاني ناجع ويعفي من الجهود المنتظرة لتعبئة المجتمع وتنظيمه لإزالة الخطر الحقيقي الذي يسبب الأذى.
ومثل هذا السلوك هو في الواقع أكبر هدية يقدمها النظام لتلك القوى الخارجية الاستعمارية نفسها التي يسعى إلى التخلص من ضغوطها أو من الخناق الذي ضربته حوله. ذلك لأنه بدل أن يضعف من قدرتها على الضغط يقدم لها ذرائع إضافية للاستمرار فيه وتجنيد المزيد من العناصر الداخلية التي سيدفعها الظلم والتهم المزورة إلى الالتحام معها.
في منظور الحسابات السريعة والظرفية يمكن لتكتيك كبش الفداء أن يساعد النظام، من خلال توجيه الأنظار نحو عدو داخلي مسؤول عن جميع المصاعب والإخفاقات التي شهدتها البلاد في شخص أو أشخاص المعارضة، على تخفيف الضغوط الداخلية عليه سواء ما جاء منها من داخل الحزب الحاكم أو من داخل الرأي العام.
فهو يدفع إلى توجيه النقد إلى المعارضة باعتبارها عامل الشغب والاضطراب وربما التآمر الذي منع النظام من تحقيق أهدافه الوطنية ويجنب بالمقابل النظام أي نقد أو اتهام بالتقصير أو بالخطأ ويعفيه من تقديم كشف حساب عن سياساته للرأي العام. ونظرية المؤامرة لا تهدف في الواقع سواء استخدمت في مواجهة المعارضة أو في مواجهة القوى الأجنبية، إلا إلى التهرب من المناقشة العقلانية للخيارات الإستراتيجية والسياسية ومراجعتها وبالتالي إلى تبرئة النفس من المسؤولية.
وهو بالضبط ما ترمي إليه سلوكية كبش الفداء. فهي بقدر ما توحي بأن وجود المعارضة نفسها، أي العمل المعارض الذي هو ماهيتها، هو السبب الرئيسي للكارثة التي حلت بالبلاد، تعتبر خياراتها الإستراتيجية والسياسية صحيحة لا تحتاج إلى مراجعة وترفض أي نقد يمكن أن يوجه لها باعتبارها الفاعل الرئيسي في الحياة الوطنية.
إنها تستبق بالاتهام بالخيانة الطرف ذاته، أعني المعارضة، الذي كان من المفروض أن يتهمها بالتقصير. وهكذا بدل أن يدفعها الفشل إلى مراجعة سياساتها غير المتسقة وحساباتها الخاطئة التي قادت إلى الإخفاق، يحثها تكتيك تركيز التهمة على المعارضة إلى المغالاة في مدح السياسات والخيارات غير السليمة واختلاق أسباب واهية لعظمتها وصدقيتها.
بذلك يقود منطق التضحية بكبش الفداء إلى الانقطاع عن الواقع الفعلي والدخول في منطق تبريري يضعف من قدرة السلطة أكثر فأكثر على معالجة الأوضاع الصعبة الضاغطة.
ليس للمعارضة السورية ولا للمثقفين أي نصيب من المسؤولية في ما آلت إليه الأوضاع السورية من التدهور على المستويات الإستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية. بل بالعكس لم تكف هذه المعارضة منذ انبعاثها في السنوات القليلة الماضية عن تأكيد تضامنها مع النظام في جميع القضايا الوطنية ورفضها القاطع للتعامل مع أي قوى أجنبية حتى لو كان ذلك باسم تقريب أجل التغيير الديمقراطي.
وباستثناء تلك المجموعات الصغيرة الطارئة التي اكتشفت في واشنطن رسالتها الاحتجاجية في السنتين الماضيتين على أثر اتخاذ الولايات المتحدة موقفا معاديا للنظام السوري، ظلت المعارضة السورية ولاتزال أجزاء كبيرة منها تتبنى حتى اليوم موقف الحوار مع السلطة القائمة، والمراهنة على رئيسها ومعاونيه في سبيل إنجاح مشروع للإصلاح والتغيير من الداخل وبالتفاهم مع السلطة، وتدعو ليل نهار إلى مصالحة وطنية وتناشد النظام العمل من أجل مؤتمر وطني يجمع كل الأطراف وفي مقدمها الحزب الحاكم حتى تتجنب العنف وتجنب البلاد التدخلات الأجنبية.
فليست المعارضة، بما في ذلك الخارجية، ومن باب أولى المعارضة الداخلية بما تشمله من أحزاب وطنية ديمقراطية ومنظمات وهيئات مدنية ومثقفين نقديين، هي المسؤولة عما أصاب النظام من الضعف في المعادلة الإقليمية والوطنية، الإستراتيجية والاقتصادية والسياسية. فلم تكن بأي شكل طرفا في الممارسات والسياسات التي قادت إلى الصدام بين سوريا والولايات المتحدة حول العراق.
وليس لها أي ناقة ولا جمل في دفع الأمور نحو الأوضاع التي استدعت خروج القوات السورية تحت الضغط الدولي من لبنان. وليست هي المسؤولة من قريب أو بعيد عن حصول القطيعة المدوية بين الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي كان الوسيط الرئيسي لتسويق النظام السوري في أوروبا وأميركا، والقيادة السورية.
وليس للمعارضة أي ضلع في البطء غير المفهوم إن لم نقل في التعثر الذي شهدته ولاتزال عملية الإصلاح الاقتصادي ولا من باب أولى في الاختناق السياسي الذي تعيشه البلاد. وليس لسياساتها وسلوكها وتصريحاتها وتحليلات كتابها أي نصيب في استشراء الفساد وتعميمه على جميع مؤسسات الدولة ودوائرها ولا في الخروقات المتزايدة لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
بالتأكيد لم تكن المعارضة في توافق دائم مع السلطة في موقفها، وهذا أقل ما يمكن انتظاره من معارضة مهما كانت ضعيفة. فقد كانت تطالب بالفعل بالخروج من لبنان وتلح على ضرورة ربط الإصلاح الاقتصادي بالإصلاح السياسي وتدعو إلى وقف انتهاكات حقوق الإنسان ووقف العمل بقوانين الطوارئ والأحكام العرفية وفتح الباب أمام المشاركة السياسية والعمل على تعميق الحوار في اتجاه المصالحة الوطنية.
ومن الممكن القول إن المعارضة قد أساءت لصورة سورية لأنها نشرت الغسيل الوسخ لغياب الحريات والخروق المتكررة لحقوق الانسان في البلاد وساعدت بذلك أعداءها على استخدام انتقاداتها لتبرير الحصار المضروب اليوم على سوريا.
لكن بالإضافة إلى أن الكشف عن انتهاكات حقوق الإنسان هو واجب وطني وإنساني لا يمكن محاسبة أحد بسبب تأديته ولكن شكره عليه، فإن المسؤول الحقيقي عن إساءة سمعة سوريا هم أولئك الذين ينتهكون الحقوق بدل احترامها ويجرمون التعبير عن الرأي ويستبدلون القانون بالأحكام العرفية ويوظفون القضاء لأهداف سياسية.
وبالمثل ليس أولئك الذين كانوا يدعون إلى تطبيق اتفاقية الطائف والإسراع بالخروج من لبنان وبناء علاقات متوازنة وطبيعية معه هم المسؤولون عن الظروف الدولية وفي مقدمها التحالف الأميركي الفرنسي الذي أجبر القوات السورية على الخروج من لبنان تحت الضغط القوى وإنما الأعمال والممارسات غير المسؤولة وغير الطبيعية التي دفعت مئات ألوف اللبنانيين إلى الخروج إلى الشوارع مطالبين برحيل القوات السورية.
وليست المعارضة هي التي وقفت في مواجهة إصلاح الأحوال الاقتصادية والسياسية والإدارية ولكن الذي وقف أمامه حسب تحليلات تيار الإصلاح في السلطة نفسها، هو الحرس القديم ومراكز القوى وشبكات المصالح الكبرى التابعة للنظام والمكونة له معا.
كيف يمكن تحميل المعارضة مسؤولية الإخفاقات والمآزق والتحديات الصعبة التي يعيشها النظام وفي الوقت نفسه قبول ما يردده المسؤولون أنفسهم، على سبيل تبرير عدم الاعتراف بها ورفض الحوار معها، حول محدودية نفوذها بل ضآلة عدد أعضائها الذين يعدون بالعشرات ولا فاعليتها وعجزها، كما قال وزير الخارجية فاروق الشرع في أحد تصريحاته، حتى عن "إدارة مدرسة ابتدائية".
لا يمكن لمثل هذه المعارضة الموسومة بالغياب والضعف واللاعقلانية والركض وراء أهداف وهمية أن تتسبب في محاصرة النظام أو إضعافه أو عزله عن حلفائه أو منعه من الإصلاح حتى لو أرادت ذلك، ومن باب أولى تأليب الدول الكبرى عليه وهي التي لاتزال ترفض حتى اليوم أي حوار مع أي طرف أجنبي.
لا يعني هذا أن المعارضة لا تستحق النقد. لكن النقد الحقيقي الذي يوجه إليها هو أنها لم تقم بواجبها كاملا كمعارضة ولم تنجح في جر أصحاب المصلحة في التغيير والإصلاح من ملايين السوريين إلى العمل الإيجابي والناجع في سبيل ضمان التغيير بالطرق السلمية بدل الانتظار حتى تحصل الأزمات وتحدث الانفجارات التي لا يستطيع أحد أن يتحكم في مسارها.
بمعنى آخر إنها تنتقد لضعف معارضتها وعدم نجاعتها لا لإعلانها مواقف وتبنيها لسياسات مختلفة عن النظام أو نقدها لسياساتها وخياراتها الخاطئة. لكن ليس ضعفها ولا ينبغي أن يكون سببا في اضطهادها أو تحويلها إلى كبش فداء يخفي الحاجة إلى البحث عن الحلول العقلانية للأزمة السورية وفي مقدمها التعاون بين جميع مكونات المجتمع السوري والمصالحة الوطنية.