بصراحة ... ما عدت متأكداً تماماً من هامش الحرية المتاح لمناقشة موضوع السياسة النووية الإيرانية. فبموجب القوانين الجديدة التي أعلن عنها رئيس الحكومة البريطانية توني بلير في سياق الحرب على «الإرهاب»، المتسارعة بعد تفجيرات لندن، قد يندرج أي بحث في العمق تحت عنوان «تبرير الإرهاب» أو «الدفاع عنه».
وأنا وغيري من المحللين السياسيين من ذوي الخلفيات الحقوقية المحدودة بتنا نجد أنفسنا تائهين.. بالكاد نستطيع التمييز بين ما يجوز قوله وما لا يجوز أمام المتاهة الضبابية التي بدأت من تعريف «الإرهاب»، وها هي تصل الآن إلى تعريف «تبريره» أو «تشجيعه». ومما يزيد مهمتنا صعوبة أن الكثير من القوانين المروّج لها اليوم قد يطبق منطوقها بمفعول رجعي، بمعنى أن ما هو مشروع اليوم قد يصبح ممنوعاً غداً.
وبما يتعلّق بإيران أعرف شخصياً جملة من الحقائق ـ لا أحسب أنني بمعرفتها أنجزت فتحاً مبيناً ـ أهمها ما يلي:
أولاً، إيران دولة تصف نفسها بأنها «جمهورية إسلامية»، و«الغرب» (الأميركي الأوروبي) يعتبرها «ثيوقراطية» يسيطر عليها «الملالي» الرافضون لمفاهيم الديمقراطية الغربية ومبادئها.
ثانياً، إيران دولة إقليمية كبرى يزيد عدد سكانها عن 70 مليون نسمة، وتحتل موقعاً استراتيجياً خطيراً بالنسبة لموارد العالم النفطية في مناطق الخليج وبحر قزوين (الخزر).
ثالثاً، في الذاكرة السياسية الإيرانية حالات مريرة في التعاطي مع القوى الكبرى... ابتداء من الجار الروسي الذي خاضت معه نزاعات حدودية طويلة، إلى بريطانيا والولايات المتحدة اللتين بدأتا منذ مطلع الخمسينات علاقة غريبة من التحالف الأحادي المصالح مع طهران «البهلوية» ضد إيران «الشعب». وازدادت المرارة بعد تطورين مهمين هما تشجيع العراق في عهد صدام حسين على خوضه حرب «منع تصدير الثورة» ... وكان من الغايات البعيدة المأمولة لتلك الحرب تفسيخ إيران وتقسيمها. ثم محاولة جر إيران إلى المستنقع الأفغاني عندما تعمدت بعض الجهات الأفغانية استفزاز طهران بقتل دبلوماسييها ثم ارتكاب مجازر ضد أقلية الهزارة الشيعية.
رابعاً، من الناحية الجيو سياسية تجد إيران نفسها اليوم أسيرة لحصار أميركي مباشر، على اعتبار أن لدى الولايات المتحدة تحت حكم «المحافظين الجدد» قوات وقواعد وتسهيلات عسكرية في كل الدول المحادة لإيران من كل الجهات، من العراق إلى تركيا إلى تركمانستان، فأفغانستان وباكستان.
خامساً، إيران ما زالت موضوعة على قائمة «محور الشر» ودوله «المارقة» وفق منظور «المحافظين الجدد».
سادساً، تشعر السلطة الإيرانية أنها سلطة غير مرغوب فيها غربياً، وأنها مستهدفة مهما فعلت لتبريد التأزم، مع تذكر أن «مدرسة المحافظين الجدد» لديها انتقائية لافتة في مسألة أي دولة تستحق أن تدافع عن نفسها وأي دولة يحظر عليها الدفاع عن نفسها، وأي دولة لها ملء الحق في تطوير السلاح النووي وأي دولة يشكل مجرد تفكيرها باقتناء السلاح النووي تهديداً للسلام العالمي.
سابعاً، لمدرسة «المحافظين الجدد» سوابق في التعبير بصراحة عن إمكانية خوض حروب نووية محدودة، ولإسرائيل ـ التي هي حجر الزاوية في «مشروع الشرق الأوسط» الكبير ـ سوابق في ضرب المنشآت النووية التي ترفض أن تكسر احتكارها النووي في أي شرق أوسط .. كبيراً كان أو صغيراً. وبالتالي عند السلطة الإيرانية اقتناع ترسخ بمر الزمان أنها العدو المطلوب التخلص منه مهما كلّف الأمر.
ثامناً، أثبت التعاطي الغربي مع كل من «عراق صدام حسين» وكوريا الشمالية كيف أن الأمر الوقع النووي يشكل رادعاً معقولاً ضد أي مغامرة راديكالية. فبينما سهل التخلص من النظام العراقي السابق بغياب سلاحه النووي المزعوم ما زالت هناك صعوبات في ضرب كوريا الشمالية بوجود خشية من احتمال ردها بسلاح نووي ـ ولو كان متواضعاً.
لكل الأسباب الواردة أعلاه وغيرها، أعتقد أن التهديد بحسم الجدل النووي الإيراني عسكرياً قد لا يكون الخيار الأفضل... لأكثر من جهة بما فيها الولايات المتحدة ومناوراتها الإثنوغرافية الخطيرة على طريق «فرض» الهيمنة المطلقة على المنطقة. بل هو قفزة في المجهول في ظل استمرار الحيرة والارتباك بواشنطن حيال أيهم أصلح كحليف تكتيكي مؤقت... السنة أم الشيعة. وطبعاً، هنا لا يعود المرء بحاجة إلى التذكير بأن تهديدات ومواقف من نوع ما نسمع يشكل أفضل حملة تجنيد لأكثر الأصوليات ... أصولية.