نريد أن نقرر تعدد الدواخل والخوارج، وأن ليس هناك جدلية داخل/خارج متماثلة مع ذاتها على اختلاف البلدان والمراحل التاريخية وقطاعات النشاط الإنساني. وإن الدول القائمة، فيما عدا كونها ظواهر تاريخية، ليست دواخل مطلقة تحوط بجوانب حياة المجتمعات جميعا. بعبارة اخرى، إن حدود الدول ليست أسواراً صينية تعزل داخلا متماثلا مع ذاته عن خارج فوضوي او بَري، متجانس في خارجيته.
والواقع أن مفهومي الداخل والخارج وُلدا مع ولادة الحدود ومفهوم الدولة السيدة. الحدود هي جلد الدولة السيدة، إهاب جسدها ومبدأ تكاملها وكرامتها، واي خدش او طعنة هي إهانة للشرف وتهديد بالموت. ومعلوم أن جلود الدول توزعت في منطقتنا بعمليات جراحية عشوائية قام بها البريطانيون والفرنسيون، ويقوم بها اليوم الأميركيون والإسرائيليون. وبفضل هذه العمليات نشأ لدينا واقع عدم التطابق بين دواخل الدول: الداخل الجغرافي السياسي والداخل الثقافي والداخل الاجتماعي والداخل الاقتصادي. لقد كانت حلب، مثلا، تعيش بفضل موقعها بين اسكندرون وجنوب تركيا وبين الموصل وشمال العراق. لذلك آذن نشوء الكيان السوري الحديث في سياق تكون الدول القومية السيدة في المجال ما بعد العثماني، بانحدار مستمر لهذه المدينة. لقد انقطعت شبكة تفاعلاتها الاقتصادية والبشرية وأضحت مدينة محلية في دولة ناشئة متقلقلة الكيان. في ذلك الوقت، كانت حدود <<الداخل الحلبي>> هي حدود تلك الشبكة وليست حدود سوريا (غير الموجودة)، ولا حدود الانتشار العربي، ولا حدود الانتشار الإسلامي، ولا حتى حدود السلطنة العثمانية.
القصد أن الداخل هو جملة تفاعلات، أو أن الداخل لا يوجد قبل التفاعلات، كما لا توجد الضفاف قبل الأنهار. التفاعلات المتنوعة هي التي تحدد الحدود، وليس العكس. القصد ايضا أن مفهومي الداخل والخارج ليسا سابقين للتحليل، ينسكب التحليل فيهما كما ينسكب الماء في الحوض. إنهما بالذات مفهومان ينتجان عن التحليل الدينامي للظواهر الاجتماعية والدولية. القصد كذلك ان الداخل تشكل وقتي متبدل في جدلية داخل/خارج متبدلة هي ذاتها.
هذه نتائج موقتة تساعد في كشف مدى سطحية وأيديولوجية النقاش الجاري حول التغيير: من خارج أم من داخل؟ جوابنا: دينامية التفاعل أولا، وهي التي توزع الدواخل والخوارج والحدود على الجماعات البشرية. والسيطرة الأميركية على التفاعلات الجيوسياسية والعسكرية والاقتصادية الكبرى في المنطقة هي التي تجعل من أميركا الخارج الداخلي لها أو فيها، حاضرها الغائب.
معضلة التغيير الديموقراطي
من اين يأتي التغيير إذن؟ من الداخل أم من الخارج؟ نقول ببساطة إن التغيير يأتي من الأقوى، لا من خارج مجرد ولا من الداخل القائم. والأقوى هو حاليا الولايات المتحدة، وهي الجهة الأقدر من غيرها ايضا على منع التغيير وإحباطه وفقا لما جرت عليه سياستها منذ الحرب العالمية الثانية حتى 11 ايلول 2001؛ 60 عاما كما قال بوش قبل أقل من عامين، وكررت رايس قبل اسابيع. بقليل من الانتباه نتبين ان قدرة الولايات المتحدة على التغيير هي وجه من قدرتها العامة على التحكم بمصائر المنطقة ودولها وشعوبها، استقرارا بالأمس أو تغييرا او <<فوضى خلاقة>> اليوم . وهي قدرة أوثق اتصالا بقوتها ونزعاتها المهيمنة منها باهتمام متجرد بالعدالة والديموقراطية في المنطقة.
إلى ذلك، الولايات المتحدة هي الداخل الأكثر داخلية في الشرق الأوسط بالمعنى المنظومي لكلمتي داخل وخارج كإطار للتفاعلات الحاسمة وليس كمحض حدود شكلية لدول (شكلية للقوى الخالقة لها لكنها مقدسة للدول التي ترتديها). فبالمعنى الجيوسياسي والجيواستراتيجي للكلمة، الولايات المتحدة ليست خارج الشرق الأوسط (كنظام تفاعلات سياسية وعسكرية وامنية واستراتيجية)، ولم تكن خارجه أو خارجا بالنسبة له منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالخصوص بعد حرب السويس 1956 ثم حرب 1967. ولذلك بالذات نتكلم على شرق أوسط وليس على عالم عربي أو وطن عربي. فأميركا تحد دول المنطقة جميعا، وهي قوام داخلية الكثير منها: جميع دول إقليم <<بترولندة>> في الخليج، ومصر، وقبل الجميع بالطبع إسرائيل. ومشروعها الخاص بالشرق الأوسط الكبير (وقد وصفناه، في مكان آخر، بأنه خريطة طريق للحرب ضد الإرهاب) يعمل في سياق نقل داخليتها هذه من حكم الواقع إلى حكم الشرعية والقانون.
لكن الولايات المتحدة خارج المنطقة بالمعنى الثقافي أو الروحي. وبعض الخارج هذا اشد عدائية وعنصرية حيال العرب والمنطقة ككل حتى من أميركا كخارج جيوسياسي (محافظون جدد، مسيحية صهيونية، إنجيليون متعصبون...إلخ)، وبعضها كوني ويمكن للعرب وغيرهم أن يشاركوا فيه بطيبة خاطر. وكما أشرنا، يتعمد بعض اصحاب الأطروحة الخارجية، الخارجيون المتطرفون، الخلط بين معنيي الداخل والخارج المشار إليهما لانهم يريدون اميركا قوة تغيير على مستوى الثقافة والهوية وليس على مستوى السياسة وحدها. أو قد يكون اصوب أن نقول إنهم يفتقرون إلى اي محفز للتمييز بينهما لأن تحليلهم يرى في الثقافة العربية أو الإسلام عائقا كؤودا لا يتبدل أمام الديموقراطية والحداثة، وهم ممن يميلون عادة إلى اشتقاق الأنظمة الحالية من الدين أو الثقافة منظورا إليهما كجوهرين ثابتين، لا من تاريخ تكون الشرق الأوسط الحديث ولا من شبكات التفاعلات المضبوطة والمسيطر عليها بين دول المنطقة وكتلها البشرية. والعروبة هي المفهوم الملتبس المناسب للقفز من أحد التغييرين إلى الآخر دون إشكال. وهذا لأنها تطل على أفقين مختلفين: أفق الثقافة العربية القديمة والحديثة، وافق السياسة والدول والأنظمة العربية الراهنة. وعند الأميركيين والإسرائيليين المقصود شيء مختلف تماما: العروبة كمشروع هيمنة مضاد للهيمنة الأميركية والإسرائيلية، أو <<الوطن العربي>> في مواجهة <<الشرق الأوسط>>.
الأطروحة الداخلية، بالمقابل، ليست اقل زيفا وإيديولوجية. إن انظمة قمعية مغلقة، تستبطن <<الخارج>> الأميركي ضميرا لها تلتزم بنواهيه، هي الأكثر إلحاحا على أن التغيير لا يأتي إلا من الداخل. وفي ذلك الكثير من الرياء والكذب. فهي تخنق الداخل و<<تتدخل>> فيه وتخترقه بعنف <<خارجي>>، مدمرة قدرته على الالتئام والمبادرة التغييرية. حماستها للتغيير الذي لا يأتي إلا من الداخل هي حماسة للتغيير الذي لا يأتي ابدا. قبل وقت قصير قدم وليد المعلم، نائب وزير الخارجية السوري، صيغة لطيفة عن الثانية: <<لا يوجد نموذج موحد للديموقراطية في العالم. كل بلد لديه أولوياته حسب موقعه الجغرافي والاقتصادي وعدد سكانه وأحزابه السياسية. لذلك أقول لتدع الولايات المتحدة هذه الشعارات وتترك شعوب هذه المنطقة وحكامها يصنعون مستقبلهم بأنفسهم>> (من حوار نشر معه في موقع <<كلنا شركاء>> الإلكتروني، 22/7/2005). يحيل كلام المسؤول السوري إلى عقيدة الخصوصية وإن لم يعرّفها بالثقافة على جاري العادة بل ب<<الموقع الجغرافي والاقتصادي... والأحزاب السياسية>>، ويستعيد منطق التحرر الوطني حين يقرر وحدة الشعوب والحكام، كأننا لا نزال في <<ليلة الدخلة>>. داخلية مضاعفة، إذا صح التعبير، لا تعني شيئا غير الحفاظ على الواقع القائم دون اي تغيير غير ما قد يتفضل به <<الحكام>>، حين يشاؤون.
تجنح هذه النظم بصورة منهجية إلى اشتقاق ذاتها من ثقافة مجتمعها وعقيدة أكثريته، أي من <<روحه>> أو <<دخيلته>> الأعمق و<<خصوصيته>> الحية وأصالته (وهو ما يلائم تماما أطروحة الخارجيين الذين يقومون بالاشتقاق ذاته، لكن برسم اغراضهم المعاكسة). الداخل هنا ركيزة عقيدة هيمنة (بالمعنى غير الغرامشي: احتلال الموقع الأنسب للسيطرة على والتحكم بالتفاعلات بين أي فاعلين داخليين محتملين، موقع الفيتو والحرب الوقائية ضد التفاعلات غير المرغوبة) لنخب تسلطية امتيازية ومستعدة على الدوام للتفاهم مع <<الخارج>> المهيمن. الداخل أيضا مبدأ احتكار السلطة في المجتمعات المحكومة المهمشة وإغلاق باب التغيير فيها.
داخل مطلق أم عبادة القوة؟
هناك بذرة من الحقيقة في اطروحة الخارجيين: إذ كيف يمكن للداخليين تغيير الداخل وهم من الداخل؟ ألا يعني التغيير الانتقال من حال إلى غيره؟ كيف يمكن لأهل الحال أن يحققوا التحول إلى حال غيرها؟ تبدو هذه الأسئلة سديدة وشرعية، لكن التمعن فيها يكشف أنها ملغومة: فهي تضمر أن الداخل واحد متطابق مع ذاته دائما، وأنه يعيش زمنية واحدة متعاصرة مع ذاتها. اي ان زمن الثقافة وزمن المجتمع وزمن السلطة وزمن الدين، واحد، وان الاقتصاد السوري مثلا والسياسة السورية والثقافة السورية والأحزاب السياسية السورية محدودة كلها بحدود الجغرافية السورية التي تغلف الداخل وتعزله عن الخارج. في هذا الافتراض قدر من حقيقة وقدر من أهواء ايديولوجية. فقد نجحت أنظمة الحكم العربية، وهي دكتاتوريات عائلية أو عسكرية عاتية او اشد عتوا، في أن تحطم التعدد الداخلي وتعدد الداخل في مجتمعاتها عبر تدمير الأحزاب السياسية وإخماد أصوات المثقفين النقديين والمستقلين وشراء الضمائر واستتباع المؤسسة الدينية والهيمنة على الاقتصاد، وحتى قمع التعابير الذاتية والصحية عن التعدد الإثني والديني والمذهبي. وتمكنت كذلك عبر ذلك من منع التغيير، سواء كان انقلابيا او ديموقراطيا، واحتالت حتى على وفاة الحكام المعمرين بتوريث السلطة إلى ابنائهم. فعاشت شعوب البلدان العربية الرئيسية في حاضر مؤبد يتحكم بها زمان وحيد هو زمان السلطة.
هذا هو قدر الحقيقة في الأطروحة الخارجية. أما الإيديولوجيا فتتمثل في ثلاثة أشياء: الأول هو إضفاء صفة الإطلاق على إحكام إغلاق الداخل وتوحيد زمنياته. وهذا لا ينطبق حتى على نظام صدام حسين ذاته الذي نجح أكثر من غيره في وقف عجلة التغيير وإلغاء التعدد في بلده، بما في ذلك التحكم في البث الفضائي وحد الانترنت والهاتف الخلوي (قد تكون اشتركت في ذلك قرارات سياسية مع أوضاع اقتصادية تفاقمت بفضل الحصار الأميركي...). الثاني هو إغفال الطابع التاريخي لعملية الإغلاق، والميل الثابت لنسبتها إلى جوهر ثقافي او ديني او عرقي عربي. الثالث هو القفز من فرضية تماثل الداخل إلى استدعاء الخارج وتسهيل الاندراج في خططه دون تحليل للخارج وخططه وأولوياته، أو مع تحليل منقوع بسائل الرغبات. لسان حال الخارجيين يقول: من اين يأتي تغيير الداخل وهو مغلق على نفسه، ممنوع من الاختلاط والتفاعل مع غيره؟ إن استحالة الانقلابات العسكرية والانتخابات الديموقراطية وإدخال مبدأ توريث السلطة في الجمهوريات يجعل باب التغيير الوحيد الباقي هو الاحتلال الأجنبي، تقوم به قوة أقوى من الأقوياء الحاكمين في البلاد العربية وأكثر تحضرا من شعوبها المتخلفة.
في ذلك عنصر عبادة للقوة مشترك في عقائد الخارجيين الذين يتمتعون بفضيلة نادرة: التضامن مع الأقوى، فيما يفترض اننا نسعى للتغيير للتخلص من حكم القوة. وفيه أيضا لامبالاة بالضعفاء والمحرومين الذين يفترض ان التغيير يستمد شرعيته من الاستجابة لمطالبهم. الواقع أن ها هنا التباسا جديدا: تغييرية اليوم انتقلت خفية من تبرير التغيير بالعدالة إلى تبريره بالحداثة. المفهوم الذي يغطي الالتباس هو التقدم: كان <<تقدمية>> اشتراكية ووطنية ومعادية للامبريالية، وصار حداثة علمانية وليبرالية معادية للتخلف. بموازاة ذلك انتقل مفهوم التخلف من ملاك نظرية الامبريالية والتبعية إلى ملاك الثقافة والحضارة والدين، وأضحى جوهرا بعد ان كان علاقة. يفسر ذلك أننا نفتقد اليوم في كلام الخارجيين اية إشارات إلى العدالة والفقراء والمضطهدين والمقموعين.
التغيير والديموقراطية
مرة أخرى: من اين يأتي التغيير؟ إذا كنا نعني تغييرا ديموقراطيا ذاتي التطور يفتح أفقا تاريخيا لسيادة الشعوب وحقوق الأفراد والمساواة في الحرية والأمن، فلن يأتي دون كسر دينامية التفاعل الراهنة بين <<الخارج>> الأميركي و<<الداخل>> الدكتاتوري. أما إذا كنا نعني تغيير الأنظمة الراهنة فالقادر عليه راهنا هو، كما قلنا، المركز الامبراطوي الأميركي، لكنه تغيير سيمنح السيادة الحقيقة لهذا المركز ويستهدف توطينا أعمق للمركز الامبراطوي الفرعي، الإسرائيلي، في <<الشرق الأوسط>>. ولعل الموجة الراهنة من الشرق أوسطية (الثانية بعد موجة نهاية السلطنة العثمانية وتدشين نظام سايكس بيكو بلفور بترول) تكمن في اصل النقاش حول مصدر التغيير واصل فساده.
إذا صح ذلك، فإن المعضلة التي تواجه اي فاعلين سياسيين محتملين في الوضع الراهن هي: التغيير الممكن خارجي وليس نحو الديموقراطية، والتغيير نحو الديموقراطية غير ممكن داخليا. المعضلة هذه تنبع من مفهوم الديموقراطية وليس فقط من السجل التاريخي للفاعلين الخارجيين. فالديموقراطية تعني مشاركة واسعة للمجتمعات المعنية في شؤونها العامة، السيادية والسياسية. جذع الشجرة الديموقراطية، كما هو معلوم، هو مفهوم السيادة الشعبية، والسيادة الشعبية شيء مختلف، كيلا نقول انه متناقض، مع السيادة الأميركية. وهي تصلح ايضا تعريفا للداخل، بالنظر إلى أن الداخل هو المجال المستقل لتفاعلات سياسية واجتماعية وثقافية متصلة بشعب معين. في هذا المعنى العلاقة بين الديموقراطية والداخل تفاعلية:
الديموقراطية تعني اتساع المبادرة والمشاركة الشعبية، اي تكوّن داخل وطني، والداخل هو مجال تفاعلي للعملية الديموقراطية. من دون داخل وطني لا ديموقراطية، ومن دون ديموقراطية لا داخل وطنيا حيا ومتفاعلا. والدول العربية بلا داخل لأنها غير ديموقراطية، ما يجعلها مفتوحة للخارج، وهي غير ديموقراطية لأن الداخل الوطني فيها ضامر ومقموع، ما يناسب تأبيد نظم الاستبداد. أما الداخل في نظرية التغيير الداخلي عند الدكتاتوريات القائمة فهو محض اسم آخر لسيطرتها المطلقة.
في الشروط الملموسة للدول العربية يبدو احتمال التغيير الداخلي المحض ضئيلا. احتمال التغيير الخارجي حصرا تم تجريبه في العراق ونتائجه كارثية. التقاطع الأوسع بين الداخل والخارج هو الأنسب والأكثر واقعية في الراهن. الحال في لبنان أفضل من الحال في العراق بفضل اتساع مساحة التقاطع بين المبادرة الداخلية والضغوط الخارجية في لبنان وانعدامها تقريبا في العراق، بفضل الطابع السلمي والقانوني ومتعدد الأطراف للضغوط التي أفضت إلى خروج لبنان من الهيمنة السورية (تمييزا عن الطابع الحربي اللاقانوني والأحادي أو الأوليغارشي لنموذج التغيير العراقي). تغلب التفاعلات الداخلية بين اللبنانيين على تفاعلات اي جماعات منهم مع الخوارج الكثيرة المؤثرة في مصير بلدهم هو ما يعد بتبلور وطنية لبنانية أكثر ديموقراطية. العكس يعني تفجر لبنان.
خلاصات وملحوظات تكميلية
-يشير هذا النقاش بمجمله إلى تعثر او أزمة بناء داخل ذاتي النمو والانفتاح في البلاد العربية أو في اي منها. يشير كذلك إلى جمود عملية التغيير الحيوية في مجتمعات يتغير فيها وحولها كل شيء لكن الأطر السياسية التي تحكمها تبقى من دون تغيير.
-كما ثمة دواخل وخوارج ثمة داخليون معتدلون وآخرون مطلقون. الأنظمة الحالية جميعا من أنصار الأطروحة الداخلية المطلقة. مقابل هؤلاء ثمة خارجيون معتدلون وآخرون متطرفون أو حتى مطلقون. ما قد نسميه الحزب الأميركاني يتكون من خارجيين مطلقين. وليس لهم برنامج غير مطالبة الأميركيين بتغيير نظم الحكم وتحديث المجتمعات العربية.
-في شكله الحالي يعتم النقاش حول الداخل والخارج قضية التغيير ولا يضيئها ولا يساعد على بلورة سياسة للتغيير الديموقراطي في البلاد العربية. الواقع أنه يسهل الانزلاق نحو سياسات انقلابية جديدة وتكوّن نخب متعصبة جديدة قد تكون وسيطا بين الأميركيين والبنى الأهلية من وراء ظهور الدول القائمة أو بعد تمزيقها.
-كما رأينا ليس الداخل مفهوما بريئا: إنه مشروع هيمنة لأنظمة مفلسة لم يعد لديها غير توظيف التهديد الخارجي لإدامة سيطرتها على مجتمعات أمعنت فيها قتلا وتفكيكا وتفريقا. الداخل هنا محض ركيزة للتفاوض مع العاهل الأميركي. هذا يفسر ملاحظة مهمة من وجهة نظر سياسة التغيير: كلما اشتد الضغط الخارجي تجنح نظم الحكم العربية إلى التشدد الداخلي وليس إلى الانفتاح على الداخل كما يطالبها ويتوقع منها معارضون وطنيون. فإذا هي مشغولة أولا وأساسا ببقائها لا بأي قيم وطنية مزعومة، فإنها تخشى اي علاقات بين الداخل المقموع والخارج تهدد بإطاحتها، وتحرص على ان تلعب <<دورها الإقليمي>> في الداخل المحكوم حتى النهاية بالتفاهم مع الخارج.
-مفهوم الخارج ليس بريئا ايضا: إنه اسم فني لجهة لم تكن خارجية يوما. وهو يتمفصل مع مشاريع هيمنة داخلية مختلفة. وكلتا الهيمنتين القائمة والمحتملة تعكس غياب مشروع هيمنة حقيقي يشغل موقع الحركة القومية العربية التي هزمت عام 1967. مشاريع اليوم هي هيمنة بلا هيمنة، تحكم وسيطرة بلا نهضة ووحدة اجتماعية.
-باختصار، الداخل والخارج إيديولوجيتان تعرّفان معسكرين أكثر مما تضيئان واقعا. وهما ميثاق تعارف وتماسك كل من المعسكرين. هويتان.