قبيل موعد انعقاد المؤتمر القطري لحزب البعث الحاكم في سوريا، والذي لم يسفر عن أي إجراء سلطوي جدي لحد الآن باتجاه دفع البلاد باتجاه الحريات وسيادة القانون وتثبيت الحقوق الفردية، أعلنت السلطة أن انتخابات المجالس المحلية التي ستجري في العام 2007 ستكون حرة ومتاحة للجميع للمشاركة فيها.
ربما لا يكون هذا الإجراء مهماً، وقد تكون السلطة لا تنوي من فعل ذلك أكثر من إجراءات شكلية فارغة المضمون والدور كعادتها طوال العقود السابقة، برغم ما تقوم به من تنسيق مع الأمم المتحدة عبر الاتفاق مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة UNDP وتخصيص 181 ألف دولار لمراجعة قانون الانتخابات.
وقد يكون الأمر أكثر جدية هذه المرة رغم قلة كلام السلطة عن هذا الأمر أو التباهي به، وقد يكون ذلك هو دليل جدية الموضوع، وأن السلطة، أو رموزها، تريد فعلاً جعل تلك الانتخابات حرة ونزيهة، من دون قوائم مسبقة تكون ناجحة سلفاً رغم أنف الناخبين، وفي الوقت ذاته تريد أن يفوز مرشحوها وحلفاؤها. وبذلك تكون قد جربت إمكانية فوزها بانتخابات ديموقراطية من دون لجوئها للوسائل الاستبدادية تمهيداً لانتخابات تشريعية على نفس المنوال.
لكن ليست السلطة هي الجهة الوحيدة التي لا تتحدث عن الموضوع أو توليه اهتماماً، بل كذلك كل الأطراف السياسية الأخرى، المعارضة منها والأقل اعتراضاً. وهذا الإهمال من أحزاب المعارضة ليس من قبيل عدم تسجيل ثناء على السلطة، وهي لا تستأهله حقاً، بل هو ترفّع عن مثل هذه النشاطات باعتبارها ليست نشاطات سياسية، حسب مقاييسها للعمل السياسي. وإن يأتي تعبيرها عن رفضها مثل هذا الاهتمام بأنها ترفض مشاركة السلطة، من حيث المبدأ، بمؤسساتها وأجهزتها.
مثير للاستغراب، من قبلي على الأقل، هذا الموقف المعارض. فصحيح تماماً أن مبدأ ما بالعمل السياسي المعارض في سوريا كان ينص على عدم مشاركة السلطة في أجهزة نظامها الاستبدادي، لكن المجالس المحلية ليست أجهزة تسلطية بل مؤسسات دولة، مع معرفتنا وإقرارنا بأن كل مؤسسات الدولة تجيّرها السلطة لخدمة تسلطها. كما أن هذا المبدأ السياسي الاعتراضي هو مبدأ قديم كان من بديهيات الزمن الانقلابي والثوري، ومن المفترض أنه ولّى مع ذاك الزمن وفكره وممارساته. خاصة في هذا الزمن الذي يتسابق فيه الجميع لادعاء ديموقراطيته وسلميته. والأهم من كل هذا هو إقرار الجميع، المعارضة والسلطة، بأن الديموقراطية، بالعموم، طريقها تدريجي، وأنها في سوريا الراهنة لا يمكن بناؤها إلا بشكل تدريجي تقوم به السلطة أو تشارك به على أقل تقدير. وهذا باعتبار أن الوضع السوري، من بين أوضاع مشابهة له في المنطقة، محكوم بثنائية اختيار الطريق الديموقراطي بين الداخل، الذي هو السلطة حصراً، والخارج، الذي هو أميركا حصراً.
فإن لم يكن التدريج في بناء النظام الديموقراطي (إمكانية تمثيل غالبية الفئات الاجتماعية في كل مؤسسات الدولة) يبدأ من الانتخابات المحلية، فلا أظن أن البداية الموفقة تكون في انتخابات رئاسة الجمهورية أو المجلس النيابي. خاصة في الوضع السوري ذي الاستبداد المعمم والذي يفتقد لأبسط الأسس الديموقراطية. فإقرار الحقوق الفردية ما زال معدوماً في مجمل ثقافتنا السياسية، بل إن عمومنا ما زال يفتقر لمعرفتها ولمعرفة الثقافة الديموقراطية، التي تحتاج بدورها، من بين حاجاتها الكثيرة، لتوفر الحريات الفردية.
إن الإحجام عن الاهتمام بالانتخابات المحلية (رغم دلالاته السلبية المخيّبة) هو غير مقاطعتها. فمقاطعة الانتخابات يأتي في حينها كموقف من الإخلال في نزاهتها أو إجراءاتها، ويأتي بعد أن تكون الجهة المقاطِعة قد فعلت الكثير من أجل هذه الانتخابات، كالعمل على المشاركة بصياغة قانون الانتخابات وعدم السماح للسلطة، وكذلك للأمم المتحدة، الانفراد بذلك، وأن تكون قد حاولت بكل الإمكانيات والطرق الدفاع عن حقها الشرعي في المشاركة الشرعية بالانتخابات. وبذلك تكون المقاطعة بمثابة ضغط على السلطة (أي سلطة) لتصحيح العملية الانتخابية وليس حرداً سياسياً. إلا أن مثل هذا الضغط يحتاج من صاحبه أن يكون ذا ثقل شعبي يمكّنه التأثير في نسبة عدد الناخبين وإقبالهم على التصويت.
ومع ذلك فإن أي انتخابات تتوافر لها حدود مقبولة من النزاهة الديموقراطية يمكنها أن تحقق للجهة السياسية، إضافة لتمكنها من المشاركة في المجالس، حملة دعائية ليتعرف الناس بها، خاصة الناس (في الحالة السورية) الذين لا يتعاملون مع الإنترنت حيث يقتصر وجود أحزاب المعارضة ونشاطاتها. إضافة لكون الفترة الانتخابية تشكل فرصة طيبة لأحزاب النخبة (وهي صفة عامة لأحزاب المعارضة السورية) بأن تقوم بدورها التنويري الذي تدّعيه، من خلال اتصالها المباشر مع الناخبين وتبيان الشروط الديموقراطية، أو الشرعية، للانتخابات، وإيضاح حجتها لمقاطعتها.
أما أن يكون الأمر ترفعاً وتعالياً فهذا دليل عجز عن الممارسة السياسية، أو فقر بمعرفة سبل العمل السياسي وغاياته. أو أنه مسعى لحل توافقي تسووي مع السلطة لمشاركتها من خارج الأطر الشعبية (الديموقراطية) عبر مؤتمر <<وطني>> لم تحقق بعد أطرافه، بما فيها السلطة، شرعيتها الشعبية أو التمثيلية، أو <<لم تأتها الفرصة بعد لإثبات ذلك>>. أو أن الفهم السياسي ما زال حبيس الفكر الانقلابي البائد وربما الماثل الذي يقصر خيار الديموقراطية من <<الداخل>> على انقلاب <<ديموقراطي>> تقوم به فئة أو جماعة أو أفراد في السلطة تبيح من خلاله الحريات وتتيح الديموقراطية. وان الديموقراطية من <<الخارج>> يحملها جاهزة مخلص غربي عبر الغزو العسكري.
الإصلاح من الداخل لا يجوز أن يكون سلطوياً، وإن كان بمبادرات من السلطة وتحت رعايتها واستثماراتها. والإصلاح في سوريا (وقد يكون في مثيلاتها) هو تحديداً تنازل السلطة عن سيطرتها على مؤسسات الدولة وهيئاتها وهيئات المجتمع المدني للمجتمع أو للشعب. إذ ان قوام الاستبداد في سوريا هو هذه السيطرة للسلطة السياسية (تاريخياً) على مؤسسات الدولة. وتفكيك هذا الاستبداد هو تحديداً تمكين (وليس استعادة) المجتمع، بفعالياته وممثليه وقواه، من السيطرة على هذه المؤسسات بشكل حر. إذاً فالفعل له فاعلان: السلطة التي تتنازل، والمجتمع الذي يتمكن.
وهنا تعترضنا مسألة خلافية ذات أهمية عالية. إذ يعتبر البعض أن تنازل السلطة هذا هو إعادة تلك السيطرة للمجتمع، حيث ان الدولة كانت بألف خير قبل أن تنقض عليها هذه السلطة تحديداً، وفي أقل تقدير، قبل بدء مسلسل الانقلابات العسكرية في سوريا. لكن، ورغم اختلافنا مع هذه الرؤية وقبولنا بنفس الوقت التوافق معها، فإننا نرى أن صورة الدولة المدنية (الحد الأدنى من مواصفات الدولة) لم تعد حاضرة في ذاكرة الشعب السوري. بل وتفتقر الذاكرة العامة لمعنى الدولة ولحقوق الأفراد ولحقوق المواطنة. وتخلو هذه الذاكرة، بل والثقافة السياسية عموماً، من كيفية إدارة الشؤون العامة بدون دكتاتور أو مخلّص أو إمام. من هنا تأتي ضرورة التدريج والتدرج في الإجراءات، وهذا ليس لمهادنة السلطة أو الالتفاف عليها. كما ليس لعدم توافر قوى سياسية من خارج السلطة ذات كم عددي كبير يمكّنها من الفوز بالانتخابات التشريعية (إن أتيحت!)، كالحال الافتراضي للإخوان المسلمين كما يروّج له بعض المعارضين وبعض السلطويين أيضا. فهذا السبيل لا يكفيه فوز جهة ما بالانتخابات بل يشترط أن تكون تلك الجهة قوة ديمقراطية حقاً، وهذا الشرط لا يتوفر عند من يقبل بصناديق الاقتراع حَكَما فيصلا بين القوى السياسية، وإلا ستكون جهات السلطة (حزبها وجماعاتها) هي الأكثر ديموقراطية إن ارتضت بانتخابات حرة، ولو جاءت مبكرة جداً بحيث تضمن الفوز فيها.
لهذا فإن الانتخابات المحلية فرصة جد مؤاتية للتدرب على فنون الديموقراطية وسحرها وألاعيبها، وبنفس الوقت لارتكاب الأخطاء المشروعة. وربما تكون فرصة طيبة تستدعي قيام كتل وأحزاب سياسية جديدة. كما هي فرصة لتجربة لقبول الأقلية بأقليتها، ولإقرار الأكثرية بكامل الحقوق للأقلية. فكما ان لا ديموقراطية من دون أكثرية شرعية تفوز بالسلطة، كذلك لا ديموقراطية من دون أقلية تقبل المشاركة في الانتخابات ولو لن تفوز بها. وهي فرصة أيضا للأحزاب لتثبت لنا ولنفسها مدى جماهيريتها. أو لتختبر ذلك، وتتعرف مدى حجم تأثيرها وتقبل بحدود مقدراتها. أو لتمارس صراعاً تكون الانتخابات المحلية ميدانه. فكل صراع سياسي يحتاج لميدان محدد غير الميدان الأمني ليقوم عليه.