نافل، بات، الحديث عن ضرورة الإصلاح أو عن حاجتنا إليه. فالجميع أعجبتهم الكلمة وأخذوا يرددونها. بعضهم تبناها وبعضهم داور عليها. وتراوحت حدود فهم المصطلح بين "تصليح" بعض إجراءات العمل الإداري والإجرائي، الذي أخذ به بعض مسؤولي السلطة ممن يرون في أي تغيير ضررا بمصلحتهم الشخصية، أو أنهم لم يستوعبوا معنى الإصلاح، وبين إسقاط السلطة الذي أخذ به بعض معارضيها، خاصة ممن هم خارج البلاد.
لا يمكن للإصلاح أن يكون "تصليحاً". أي أن يكون مجرد إصلاح لآليات الحكم والإدارة المعمول بها، وإلا لما أخذ كل هذا الضجيج وهذا الاهتمام، ولكان الأولى أن ندفعه خلفاً على سلم الأولويات. كذلك لا يمكن أن يكون هدما لكل ما هو منجز وقائم، بغض النظر إن كان هذا القائم صالح لنا جميعنا أو يلبي كل طموحاتنا.
نحن بحاجة بكل تأكيد إلى تغيير كل آليات العمل والتفكير والحكم. فالآليات توجد لتحقيق غايات، والغايات اختلفت الآن جذريا عما كانت عليه طوال عقود ماضية.
أعتقد أن أس الخلل في النظام الاجتماعي السياسي السوري هو أننا (السوريون) مكّنا السلطة السياسية من السيطرة على مؤسسات الدولة بدل أن تكون هي إحدى هذه المؤسسات. وقد بدأنا بهذا الفعل منذ أول انقلاب عسكري حصل في البلاد. وتمكّنا من ذلك لسببين متشابكين، الأول صغر عمر الدولة السورية وقلة نضجها بأذهاننا وبحياتنا، والثاني أن نظام الحكم كان دوما متقدما على المجتمع، مما جعل من العملية السياسية محصورة في النشاط النخبوي.
على هذا فإن أي إصلاح مرتجى لا بد أن يذهب بعكس المسار الذي مشيناه في السابق، وأن تكون غايته هي إعادة تمكين الدولة، أو الأصح إعادة صياغتها على صعيد بنيانها وآلياتها وغاياتها حسب مشيئة السوريين الحرة جميعهم. والسبيل إلى ذلك باختصار: تقليص سيطرة السلطة السياسية على الدولة ومؤسساتها. والمخوّل الوحيد، الآن، للقيام بهذه المهمة بطريقة سلمية هي القيادة السياسية الحالية، أي أن تقبل بالتنازل التدريجي عن هذه السيطرة. وبالفعل فقد فعلت ذلك، خلال الفترة السابقة، عبر بعض الخطوات بسيطة على بضعة أصعدة.
ورغم أن البعض يعتقد أنه لا يمكن أن تتنازل جهة عن سيطرتها أو عن نفوذها برضاها، فلا بد من إجبارها على هذا التنازل، فإن كان هذا الحكم مصيب في تبسيطيته، إلا أنني أعتقد أن الكثيرين من العاملين في الميدان السياسي يمتلكون دوافع أسمى من المصالح الذاتية السلطوية القصيرة الأمد، وعادة القادة الشجعان يمثلون هذا النموذج. وكثيرا ما شهد التاريخ أمثال هؤلاء. ولا تعني هذه الشجاعة انسحاب هؤلاء القادة أو السياسيين من الميدان السياسي وتخليهم عن مسؤولياتهم، بل على العكس فإن شجاعتهم المقصودة هي في تصديهم لصعاب مسؤولياتهم ومهامهم.
إذن، من وجهة نظري، فإن هذا الإصلاح بما يعنيه من هذا التنازل للسلطة السياسية هو مقياس لعملنا وطروحاتنا. فأي فعل أو اقتراح، من أهل السلطة أو من معارضيها، يجب أن ينحو بهذا الصوب. شرط أن يكون هذا التنازل بشكل تدريجي، ليمكّننا من السيطرة على إجراءاتنا وخطواتنا، وإلا سنكون ندفع بالأمور إلى مغامرة صبيانية يحكمها الانفعال. وهذا الشرط لا يعني، إطلاقا، البطء في الإجراءات، كما يراه بعض مسؤولي السلطة. فالتدرج ليس مقياسه السرعة، زيادة أو نقصانا، بل ترتيب الأولويات. وهذا الترتيب يجب أن يكون محكوما بأمرين: مقياس الإصلاح، حسب ما ارتأيناه أعلاه، وعدم تعريض النظام العام للسقوط أو الانهيار… إذ المطلوب هو تغيير هذا النظام وليس إسقاطه. على ألا يفهم البعض من هذا الأمر الأخير أن تصبح الغاية هي مصلحة السلطة وتأمين أسباب ديمومتها، فمصلحة الوطن هي الغاية، ومن هذه المصلحة المحافظة على الاستقرار العام بما يتضمنه، الآن فقط، من وجود سلطة سياسية قادرة على تأمين الأمن للسوريين ووحدة وطنهم، إلى أن يصار لاحقا إلى وجود مؤسسات للدولة يسيطر عليها ويديرها الشعب وممثليه، بحيث لا تنفرط البلاد إذا ضعفت إحدى هذه المؤسسات أو انهارت.
ليس من السهل أو اليسير على قادة السلطة، كونهم الوحيدين القادرين على القيام بهذه المهمة، تحقيق هذه المعادلة. أي تقليص نفوذ سلطتهم والمحافظة عليها بنفس الوقت وبنفس الفعل. لكن… ليس هناك طريق آخر لمن يريد الإصلاح. وليكن مثالنا على ذلك هو الإجراءات الإصلاحية التي تقوم بها السلطة على صعيد الإعلام. فقد خابت هذه الإجراءات، لحد الآن، لانزياحها عن المقياس الذي اعتمدناه أعلاه. فقد أقرت السلطة إعطاء الحق للمجتمع وممثليه (من خلال قنوات ضيقة جدا) بإنشاء مؤسسات إعلامية خاصة، إلا أن هذا الإجراء اصطدم بإرادة بعض السلطة أن يكون هذا الإعلام تحت وصاية وزارة الإعلام والجهات الأمنية، بدل أن يكون محكوما بالقانون وبالسلطة القضائية. أي أن السلطات المختصة لم تتنازل قيد أنملة عن سيطرتها على كامل القطاع الإعلامي، ولا عن جزء منه الذي يخص الإعلام الخاص. لنجد عند بعض أصحاب القرار حججا واهية بعدم أهلية النخبة السورية من إدارة إعلام خاص وطني، أو حجج مخجلة ترى عدم أهلية القضاء السوري على ضبط النشاط الإعلامي. وهذه النقطة تحيلنا إلى مسألة ذات أهمية عظمى بموضوع الإصلاح، هي قضية استقلال القضاء عن السلطة السياسية والأمنية. فطالما أن التشريع مضبوط ومضمون داخل المجلس التشريعي فالأولى بالمشروع الإصلاحي تمكين السلطة القضائية من الاستقلال بذاتها كسلطة ضامنة لجميع المؤسسات والأفراد.
اختيار الأولويات لتحقيق معادلة تقليص نفوذ السلطة والمحافظة عليها ليس بالأمر العصي، خاصة إذا خرجنا من دائرة العناوين الكبيرة التي تحصرنا في تحديد لمن تكون الأسبقية: للإصلاح الاقتصادي أم السياسي أم الإداري، وذهبنا إلى البنى والمؤسسات التي ليس لها طبيعة سياسية بحتة. أي التي ليس من حقها المشاركة الفعلية في صناعة القرار السياسي، وليس مثاليّ الإعلام والقضاء هما الوحيدين في هذا السياق. فهناك مستوى آخر له أهمية عظيمة في هذا الشأن، هو إعادة تمكين المجتمع من إدارة جميع شؤونه على مستوى البنى المجتمعية المحلية، كالقرى والأحياء والمدن، وحتى المحافظات. أي السماح للسكان باختيار مجالسهم المحلية ورؤسائها، بما في ذلك المحافظين، من دون قوائم أو امتيازات سلطوية، عبر انتخابات حرة ونزيهة. (لا بد هنا من التنويه إلى أن السلطة تعمل على إجراء انتخابات محلية حرة في العام القادم. وسيكون لنا عودة لهذا الموضوع بالتفصيل في مقال قادم). كذلك فإن هذا المستوى يتضمن فتح باب الترخيص لكل أشكال الجمعيات والروابط البعيدة عن الصبغة الدينية أو المذهبية ممن لا يحق لها الدخول بالانتخابات التشريعية.
أعتقد أن أي إجراء ليس له هذا التوجه وهذا المنحى ولا يؤدي إلى مثل هذا التنازل لن يكون له معنى أو دور في العملية الإصلاحية، وبالتالي ليس إجراءً إصلاحيا. ومع ذلك سيبقى خطر الإخفاق قائما، مهما كثرت وتعددت الإجراءات والخطوات الإصلاحية، طالما هناك إمكانية لجهة ما العودة عن هذه الإجراءات والخطوات أو الانقلاب عليها. لهذا نعتبر أن الضامن لهذا هو فقط وجود القيادة السياسية القادرة على إنجاز هذا الإصلاح وحمايته ريثما يتحقق ويستقر.