لا يخلو حديث أي صحفي أو باحث أو دبلوماسي غربي مع مثقفين أو سياسيين موالين أو معارضين، منذ أتيح في المجال الأمني مثل هذه اللقاءات، من دون أن يتناول هؤلاء الغربيون المسألة الطائفية في سوريا، تساؤلا واستيضاحا، إن كان الحديث أو اللقاء رسميا أو غير رسمي. بل إنهم ينظرون إلى الأشخاص الذين يحادثونهم على أنهم أفراد في طوائف، أو ممثلون لطوائف إن كانوا في مواقع سياسية أو سلطوية.
لا يُعتبر الحديث، مع الغربيين أو غيرهم، مأخذا على أصحابه. فالكلام عن المسألة الطائفية ليس جديدا على الحديث العام بين السوريين. فمنذ تواجدت الطوائف والمذاهب والأديان في سوريا، كان من الطبيعي أن يتحادث الناس في هذا الموضوع. فلا هو يشكل عيبا على قائليه، وما كان يمكن أن يشكل عائقا بين أفراد الطوائف السورية. وما زال هذا الحديث بين العموم، على حد علمي، لم يتعد هذا المستوى، على الرغم من أن مفردات كالسنة والشيعة والعلويين والمسيحيين والدروز لم تكن بهذا الحضور العلني التي هي عليه الآن. وهذا، على الأرجح، ناجم عن كثرة تداول هذه المفردات في الإعلام الفضائي، خاصة بعد الاحتلال الأميركي للعراق، الذي فتح الباب على مصراعيه ليس فقط للحديث بالمسميات الطائفية فحسب بل للنزاعات والحساسيات الطائفية.
الغربيون المتحدثون مع سوريين لا يرون في التركيبة المجتمعية والسياسية السورية غير علاقات ما قبل مدينية بل وما قبل مجتمعية، محكومة ببنى طائفية ومذهبية، وأفرادها محكومون، بحكم مشاربهم الطائفية، بدوافع وغايات ومصالح طائفية. مما يجعلهم يعتبرون أن المحرك الداخلي/الذاتي السياسي لمجمل الكيان السوري ولمكوناته مقتصر على العلاقات الطوائفية.
هذا التصور الغربي عن سوريا ليس دقيقا، ولا أعتقد أن أصحابه بذلوا أي جهد علمي يجعلهم يرتكنون إليه. فهم، في أغلبهم، يعتمدون تصورا مسبقا على أن بلداننا تقوم على تركيبات وتكوينات دينية وطائفية. وهذا الموقف، إضافة لكونه خاطئا، فإنه غير نزيه.
من موقع آخر، فإن عددا من المثقفين والكتاب السوريين تناولوا المسألة الطائفية في سوريا بكتاباتهم وأبحاثهم، معتقدين أنهم ينجزون بذلك فتحا معرفيا جديدا إن كشفوا الغطاء عن أمر «مسكوت عنه»، كما يفضلون توصيفه. وبالتالي كل «مسكوت عنه»، حسب تصورهم، يوجب على الكاتب الجريء ألا يقبل بهذا السكوت ويقوم بالإفصاح عن حقيقة هذا المخبوء. لكن، فات أصدقاءنا أن الحلول الممكنة لبعض الأمور هي بالسكوت عنها. وليس المقصود بذلك أن تتحول هذه الأمور إلى تابو ممنوع الحديث أو التفكير فيها. بل يفترض في تناولها أن يكون محكوما بنفع مجتمعي/سياسي أو معرفي، لا أن يحكمه موقف مناكف للسلطة السياسية، التي يحمّلها أغلبنا مسؤولية التسكيت على هذا الموضوع، وأحيانا مسؤولية الوضع الطائفي عموما. وذلك، تقديرا على أن السلطة البعثية، أو التصحيحية التي قامت من لدنها، طمرت المسألة الطائفية من دون أن تجد لها حلا دائم، كتعاملها مع مسألة الأقلية القومية الكردية التي طمرتها من دون حل منصف للأكراد يقوم على تعاقد وطني بينهم وبين الأكثرية العربية. ولهذا سنجد أن بعض الإفصاحات، التي قام بها بعض الكتاب، كانت لغاية سياسية هي النيل من السلطة، ليس إلا.
ولم نجد في هذه المحاولات الإفصاحية طروحات يمكن اعتبارها تجاوزا لسياسة السلطة على هذا الصعيد. فجل ما قدمه البعض (أشدد على البعض) انحصر في عملية إحصائية تعسفية للتعداد الطائفي في سوريا، وفي نسبة حجوم الطوائف لبعضها، ومدى كبر حجم الكتلة السنية قياسا بغيرها، خاصة الكتلة العلوية. وصولا إلى إن كان يتيح لها حجمها الكبير أن تقيم نظاما سياسيا على مقاسها. واستنادا لرأي هذا البعض من أن النظام الطائفي هو استئثار جماعة طائفية، أو طائفة ما، بالسلطة، فقد توصل إلى أن إنهاء الطابع الطائفي للسلطة الحالية (هناك من يرى أن هذا الطابع يشمل النظام السياسي ككل) يمكن أن يأتي عن طريقة محاصصة طائفية عادلة لها. فالسلطة القائمة على محاصصة طائفية، شرط أن تكون عادلة، ليست سلطة طائفية.
أصحاب هذه الآراء، وغيرهم، يعتمدون في كشف «المسكوت عنه» على أن أفراد شعبنا أو ناسنا مسكونون بالحس الطائفي، وأن الطائفية تنغل في تلافيف مجتمعنا وعلاقاته، ساكنة تحت الغطاء السلطوي التسكيتي. فإن كان جزء من هذا، وغيره مما يراه البعض في المسألة الطائفية، صحيحا، فمن غير الصحيح إطلاقا الانتقال من هذا المستوى الشعبي الطبيعي إلى الحديث عن طائفية سياسية، أو حتى النظر إلى أحوال الطوائف من الزاوية السياسية أو السلطوية.
وبالتعارض مع هذه الآراء، أعتقد أنه لا يوجد في سوريا طوائف بالمعنى الكياني ولا بالمعنى السياسي. ولا يقوم الوطن السوري (مع التحفظ الشديد على استخدام هذا التعبير) على توافقية أو قسمة طائفية. مع التنويه إلى أن ما كان مطروحا في بعض فترات المرحلة الانتدابية غائب عن الذاكرة السياسية السورية. ولا يغيّر من ذلك قول طائفي من هنا ورَدّ مذهبي من هناك ينبش في هذه الذاكرة. بل ليست مكونات الشعب السوري هي طوائفه الدينية، كما ترى وتطرح بعض الأطراف السياسية. إذ يوجد عدد كبير جدا بين السوريين يرفض بشكل إرادي وواع أن يكون من بين الطوائف، وهناك من يرفض احتسابه على طائفة، رافضا أن يعتبر ولاءه لمشايخ أو أئمة يعتبرون أنفسهم زعماء لهذه الطائفة؛ فهؤلاء علمانيون بفهمهم وموقفهم من العلاقات الاجتماعية والسياسية. وأغلب هؤلاء، وغيرهم، يرفضون احتسابهم ضمن عِداد الطوائف في القسمة السياسية أو السلطوية، أو حتى الإحصائية. حتى إن بعضهم يعتبر تصنيفه ضمن إحصائيات الطوائف يشكل اعتداء معنويا مباشرا وفظا على حريته وهويته. لكن، بالمقابل، لا يعني هذا أن ننظر إلى المجتمع السوري على أنه يتكون من أفراد مواطنين ضمن دولة مواطنة.
لا يوجد في واقع المجتمع السوري الراهن حالة طائفية بارزة ولا كامنة. فالطائفية لا تشكل حالة ما لم تكن طائفية سياسية. أما شعور الأفراد، ولو كانوا كثرة، بانتماء طائفي على مستوى دينهم وعباداتهم، أو حتى إحساسهم بأن طائفتهم أكثر صوابية من الناحية الدينية من غيرها، فهذه لا تشكل حالة طائفية. مع التأكيد أن وجود مثل هذا الشعور الطائفي عند الأفراد هو أمر طبيعي جدا، ولا يتناقض مع إمكانية انتمائهم إلى دولة علمانية. ولا شك في وجود أشخاص وجماعات، غير هؤلاء، ممن لديهم غايات سياسية طائفية؛ إلا أنهم لا يشكلون حالة مقلقة لحد الآن. كذلك، فإنه يوجد، أيضا، العديد من الأشخاص، ومن جميع الطوائف، يديرون تعاملاتهم الاجتماعية وفق نواظم طائفية. فمنهم من يفضل حصر تعاملاته المالية والاستهلاكية بأبناء طائفته، ومنهم من يمنع أبناءه من الاختلاط خارج طائفته... الخ، وينظر للآخرين على أنهم أبناء طوائف. لكن كل هذا يبقى ضمن الحالة الطبيعية لمجتمع متخلف لم يتمكن لحد الآن من بناء دولته المدينية، ولا يجعل منه مجتمعا طائفيا.
ما يوجد في المجتمع السوري هو عناصر للطائفية لم تتحول بعد إلى مكونات لها. يلزمها لذلك استمرار السياسات الإقليمية الطائفية التي نجحت، لحد الآن، في ترويج خطابها الطائفي على مساحة المنطقة، مع تمركزه في لبنان والعراق. خاصة ما يتم ترويجه عن حركات تشييع أو تسنين. هذا الخطاب سيساهم بلا شك في خلق مكونات حالة طائفية في سوريا، خاصة إن لم تتخل النخب السورية عن تسليمها «بالأمر الواقع»، وتحملت مسؤولياتها بنشر الخطاب العقلاني والعلماني.
وضع الطائفية في سوريا، لحد الآن، ليس بحاجة إلى مصالحة طائفية أو سياسية. هو بحاجة إلى استكمال علمانية الدولة السورية: إبقاء رجال الدين بعيدا عن الشأن والعمل السياسي، وحيادية إيجابية للدولة تجاه جميع الطوائف والاعتقادات، وحصر التربية والإعلام الدينيين في المؤسسات الدينية ودور العبادة. فالوضع الطائفي في سوريا ليس حاضرا ولا مهددا للحالة السياسية ـ الاجتماعية القائمة. أي ليس في تطور ذاتي متنام، بل هو مرهون بإخفاقات النخبة السياسية، في السلطة وخارجها، عن التنبه إلى أن أي انهيارات سياسية ستودي بنا إلى حالة طائفية صريحة. من دون أن تأتي بالضرورة على صورة اقتتال طائفي. بل يكفي أن تتم القسمة السياسية على أساس طائفي لنكون قد عدنا القهقرى عن أي ملمح أو تصور نهضوي، حتى لو كانت هذه القسمة مبنية على أساس الإنصاف أو رفع الغبن الطائفي.