ظل الاهتمام العلمي والثقافي في الفكر العربي المعاصر (منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى الآن) بـ"الطبقة الوسطى" في المجتمعات العربية، ضئيلاً جداً. ويلاحظ ذلك حتى في الأوساط الجامعية السوسيولوجية العربية، المعنية بذلك، في أساس الأمر، ناهيك عن غيابه شبه الكلي لدى السياسيين. وإذا وضعنا في الاعتبار أن المثقفين -في عمومهم وإجمالهم- ينتمون إلى هذه "الطبقة الوسطى"، أدركنا أنهم بذلك يفتقدون الوعي المطابق لواقع الحال الخاص بهم، أي الحامل الاجتماعي الذي يتحدرون هم منه.
وثمة التباس اصطلاحي أتي من مصطلح "العالم الثالث"، الذي وُضع مقابل "الطبقة الثالثة"، التي تقدَّم -والحال كذلك- على أنها هي الطبقة "الوسطى" نفسها. ظهر ذلك بعد استحداث العالم الديموغرافي (الفريد سوفي) المصطلح الأول (العالم الثالث) عام 1952، وحين أتى على الأوضاع المضطربة العالقة على صعيد العالم في حينه، في مقالة كتبها في العام نفسه في مجلة (فرانس أبسرفاتور)، وقال فيها ما يلي: تماماً كما وجدت في فرنسا إبّان الثورة (ثورة 14 يوليو 1789) مطالب جماهيرية صاغتها الطبقة الثالثة Tiers-Etat، فإننا نستطيع أن نتكلم اليوم، على صعيد العالم، عن مطالب العالم الثالث Tiers-Monde. هكذا، طُرحت الطبقة الثالثة أو الوسطى أو ما اصطُلح عليه بـ"الفئات الوسطى"، بمثابتها مجموعات بشرية تقع فيما بين الأعلى والأدنى المجتمعي.
وإذا كان مصطلح العالم الثالث قد أصابه اختراق بنيوي حاسم مع تفكُّك الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية بوصفه العالَم الأول أو الثاني مقابل العالَم الرأسمالي من طرف ومع المحاولات الحثيثة للحفاظ على العالم منقسماً إلى النظام العالمي الجديد وإلى ما يمثل مناطق "ضخ" اقتصادي وبشري وعسكري له، فإن مصطلح الطبقة أو الفئات الوسطى ما زال قائماً على ما لحقه من اضطراب واهتزاز وتآكلٍ في معظم العالم، والعربي من ضمنه. فالأزمة البنيوية العميقة، التي تجتاح الفئات الوسطى في المجتمعات العربية منذ السبعينيات من القرن المنصرم، عملت على تشتيت الوسطويين وتشظيتهم باتجاه الأدنى عموماً، إن هي إلا تعبير عن أزمة مَن كانوا منتمين إليها من هؤلاء الوسطويين. وقد يمكن التعبير عن هذه الأزمة بواحد من عناصرها التكوينية، وهو عودة الأمية الأبجدية بنقلٍ إلى وتائرها العالية.
ومع التدقيق في الموقف العربي الوسطوي ذي العلاقة بـ"الفئات الوسطى"، تبرز ظاهرة "الأمية الثقافية" بوصفها حالة مؤرقة، فهي خصوصاً على صعيد هذه الفئات، دون أن تنحصر فيها. ففي هذه الحال، يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
- تتراجع القوى الحية في المجتمعات العربية، في الوقت الذي تتصاعد فيه القوى المثبطة، وهي غالباً قوى تبحث عن مصائرها في قيم استهلاكية تفضل الكسب السريع، وشراء الألقاب والشهادات والضمائر. ولذلك، فهي تقيم علاقات مشبوهة غالباً مع أصحاب القرار السياسي والمالي والتجاري، كي تعيد النظر في أوضاعها لصالح قفزة تحققها باتجاه ثراء سريع ووجاهة اجتماعية زائفة.
- تجتاح الجامعات والمؤسسات الجامعية العربية عملية اختراق هائلة في ثلاثة اتجاهات، واحد علمي وثانٍ أخلاقي وثالث سياسي أمني. فالأول يؤسّس لانهيار الإنتاج العلمي والمعرفي العمومي، والثاني يؤسس لتفكيك المنظومات القيمية الأخلاقية وانتشار المخدرات والدعارة في الأوساط الجامعية، أما الثالث فيعمل على إلحاق المؤسسة الجامعية بأحد خيوط النظام الأمني.
- إذا كانت الفئات المنتمية إلى الجامعات من طلبة وأساتذة تمثل رافدين لـ"الفئات الوسطى"، فإنها تسهم في ضعضعة هذه الفئات الوسطوية ومعها وحدات ومجموعات أخرى تلتحق بالقاع الاجتماعي كما برأسِ هرمه. ومن ثم، فإن خيرة الخريجين الجامعيين تحاول الخروج إلى "الفردوس الغربي"، في حين يبقى الآخرون في الداخل، ليعمّموا المنظومات التي تلقنوها في المجتمع العربي وتتخلص في التمكين لقيم الاستهلاك الرخيص بكل أنماطه في ذلك الأخير.
ومع التأكيد على أهمية المشكلات المعرفية والثقافية في الفئات المذكورة والأوساط الأخرى، فإنه يتضح أن مواجهة هذه المشكلات لا يمكن أن تبقى في الحيّز الثقافي والمعرفي وحده، بقدر ما تشترط تناول البنية السياسية والسوسيوثقافية كذلك.