كلما شاهدت أحد منظري العروبة والوحدة العربية التي زلزلها الاستعمار اللعين ينظِّر من على إحدى الشاشات الفضية، ويصدح بحتمية الوحدة الذهبية شاء من أبى وأبى من شاء، تنتابني نوبة من الغثيان والاشمئناط من هؤلاء الذين يعاندون الحياة وما تبثه من وقائع ومتغيرات على مستوى الشارع، والأسرة، والحي.. وكأنهم عميان آخر الزمان وفرسان الأوكار والوديان .!
وكأنك حين تسمع ما يقولونه تحلِّق في سماء إحدى العصفوريات وهم يتراكضون في ملعبها ويخرِّفون بالصوت الملعلع الذي لم يعودوا يملكون غيره أن لا مندوحة عن ومن وحدة الأمة العربية العظيمة وهي حاصلة غصباً عن أكبر قرعة إمبريالية ومصير المستر سايكس إلى المزبلة أما الواطي بيكو فإلى جهنم وبئس المصير.! لذلك، يندر أن تجد زعيماً عربياً إلا ويطلق عليه المنظرِّون إياهم زعيم الأمة وقائد مسيرتها و صانع وحدتها حتى غدت أمتهم هذه تحظى باثنين وعشرين زعيما قومياًً ملهماً نقصوا الفارس الفذ صدام حسين يا حسرتاه..!
وهكذا كلما تفرَّقت المدينة العربية بمعية هؤلاء الزعماء أكثر، وكلما تمزقت الأسرة العربية أكثر، وكلما تشظى الحي العربي أكثر، وكلما هاجرت العقول العربية أكثر وأكثر، كلما أمعن السادة القوميون على الصر والإصرار على حتمية الوحدة ولم لا وهم يقسمون بأن مصل العروبة يجري مع الدماء بالوراثة في شرايين العرب وغير العرب من الجيران الذين استوطنوا أرضهم قبل العرب الأوائل.! وهم، أقصد أحبابنا يتامى الزعماء الاستثنائيين يرددون من نصف قرن نفس النشيد حتى قرفنا وتعكر دمنا وانثقبت آذاننا وتكهربت أبداننا.. صحيح أن الرفاق المناضلين باتوا قلة هذه الأيام وهم بقية بائسة من بقايا العروبة المدحورة على مدى العصر الحديث، غير أنهم لا زالوا يتناسلون ويتوارثون خرافات الأحزاب القومية التي دمرت كافة مستويات المجتمعات التي استطاعت أن تركبها وصولاً إلى أصغر وحدة فيها فلم نعد نرى إلا شتات أسر وعلاقات أسرية فكيف بالطبقات والشرائح الأخرى.!؟ لقد سمموا بالفساد الذي أشاعوه حتى حليب الأمهات، ولوثوا بسياساتهم الطائفية دماء عدة أجيال بفيروس التمذهب الطائفي، ونحن لا نبالغ كما قد يتصور البعض بل نوصِّف حقيقة المشهد الاجتماعي الذي نعيشه ونعايشه هذا المشهد المغيِّب من دائرة اهتمام وبصر وبصيرة القوميين وأحزابهم المجربة في أكثر من بلد.!
في منتصف تشرين الأول، ستحصل الضربة القاضية وذلك حين تقرُّ مكونات الشعب العراقي الدستور الدائم للعراق كأول بلد في المنطقة يخرج دستورياً من عباءة الوهم العروبي إلى فضاء التوحد الإنساني المفتوح. وسيكون الدستور العراقي القادم بالرغم من النواقص الكثيرة التي تعتريه والتي حتَّمها تكتيك التنازلات الذي اعتمد على أمل عدم ترك ثغرات يستثمرها القوميون الصداميون وحلفاءهم الإرهابيين في التنظيمات الإسلامية، أول دستور تشاركي توافقي إلى درجة كبيرة تكتبه مختلف التعبيرات السياسية لا رجالات الانقلابات العسكرية وقادة الأحزاب الشمولية.! وسيحظى العراقيون قبل كافة الشعوب العربية على فرصتهم الديمقراطية الحقيقية، ومنذ لحظة إقرار الدستور والإقلاع بالعملية الديمقراطية بدءاً من الانتخابات، سيبدأ الإرهاب والإرهابيون يلفظون أنفاسهم الأخيرة.. أما المستحاثات القومية والسادة المنظرين من عروبيين سفسطائيين فإن من الواجب على أول حكومة منتخبة في العراق أن تقوم بواجبها الإنساني فتعمل على افتتاح وتدشين أول عصفورية قومية يلجأ إليها كافة الرفاق من الفروع القطرية للأحزاب المناضلة المنتشرة سرطانياً هنا وهناك.!
أحد هؤلاء المساطيل المرضى لم يخجل أن يقول من على شاشة قناة المستقلة: أرسل من هنا تحياتي المخلصة للرفيق القومي المناضل صدام حسين في سجنه وكان كلما ذكَّره المضيف بأن هذا لا يستقيم مع ما تكشف من جرائم سلطة صدام وبخاصة المقابر الجماعية يتوتر كمن يصيبه عارض، وتتورم شفتاه، وترتجف وجنتاه، وتحمر أذنيه، وتصطك أسنانه، ويصيح بأعلى صوته: نعم أرسل للرفيق صدام التكريتي تحياتي وتبريكاتي.! ونحن لا نستطيع أن نعتب على المضيف إذ من غير المعقول عرض الضيوف القوميين على طبيب مختص بالأمراض العصبية والنفسية قبل انفلاتهم باتجاه جمهور المشاهدين.! إن السادة القوميين يكاد يفقدون صوابهم وهم يرون العراقيين أحراراً في ساحاتهم، وجرائدهم، وأحزابهم،وتلفزيوناتهم، ومعهم الحق في ذلك فمن غير المستحب في نظر الأحزاب الشمولية مناظر مؤذية كهذه.!
ويبقى أن نقول: نحن في رؤيتنا للدستور العراقي الذي سيُستفتى عليه العراقيون لا نغفل عن كونه لم يخرج بالأمل المرجو.. ولا هو بالدستور الذي كان منتظراً بعد الفرصة التاريخية المتمثلة بتكنيس سلطة البعث الاستبدادية ولكن، بدا واضحاً من المخاض المعَّقد الذي رافق عملية صياغة الدستور، كم هو حجم التدمير الذي ألحقه نظام البعث بالمجتمع العراقي و بمكوناته المتعددة .. وكم هي طويلة المسافة التاريخية التي أعادهم فيها نحو الخلف.! ويبقى الأمل في أن هذا الدستور يشكِّل بداية نوعية للإقلاع بالعملية الديمقراطية ومن الممكن أن تأتي المكملات لسد النواقص والتخلص من الثغرات في سياق الحياة الدستورية الجديدة التي سيبزغ فجرها في منتصف تشرين القادم.
نأمل ذلك.!