اصدر ميليس، رئيس التحقيقات الالماني المبعوث من قبل الأمم المتحدة للتحقيق في قضية مقتل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، تقريراً تمهيدياً حول التحقيقات المنجزة، والتي من المقرر اتمامها في منتصف شهر ايلول. الاعلام الغربي أولى القليل من الإهتمام للتحقيقات. ولكن، في حال تبثت التهمة على سوريا، وفقاً لتنبؤات العديد من المراقبين، فإن هذا قد يؤدي الى قلقلة استقرار النظام السوري، هذا إن لم يؤدي الى سقوطه.
لم يكشف التقرير عن الحقائق التي عثر عليها فعلاً ميليس وفريق تحقيقاته، ولكنه قدم تفاصيل تسمح بإعطاء بعض التخمينات. فعلى سبيل المثال، يعترف مدعي التحقيق أن المقابلات مع الشهود واستجوابهم ربما يتجاوز فترة الثلاثة أشهر المحددة لإصدار تقريره (والتي هي قابلة للتمديد ثلاثة أشهر أخرى)، ومع ذلك فإنه يشير إلى أنه يتوقع اتمام عمله في الوقت المحدد، وهذا ربما يشير الى أن ميليس قد أكمل الجزء الأكبر من تحقيقاته، وأنه تمكن من العثور على طرف أو أطراف متهمة. وليس هناك ما يشير الى وجود تردد أو شك بعد أن أوضح ميليس بأن الشهر الثاني من التحقيقات كان جيداً، وأن الفريق حصل على قدر جيد من المعلومات.
كما اكد ميليس أيضاً على أن سوريا كانت قد رفضت التعاون مع فريق التحقيقات، الذي طلب التحدث الى خمسة سوريين- وهم مسؤولون في الاستخبارات كانوا يترأسون مراكز في لبنان، وصحيفة الحياة اللبنانية الصادرة في لندن زعمت الاسبوع الماضي بأن الرئيس بشار الأسد نفسه بينهم. السوريون رفضوا مبدئياً السماح بالاستجوابات الشفهية، واستشهدوا ببنود دستورية على ذلك، وطلبوا من ميليس طرح اسئلته عن طريق وزارة الخارجية السورية، ويمكنهم الحصول على الأجوبة مكتوبة. وعندما رفضت الأمم المتحدة ذلك، وبعد أن تم توجيه تحذيرات مباشرة لسوريا الاسبوع الفائت، حتى من قبل الدول الصديقة مثل روسيا، غيّر الأسد من موقفه حيث صرّح لصحيفة دير شبيغل الألمانية في لقاء نشرته هذه الأخيرة يوم الإثنين بأنه سيسمح لميليس بالتحدث الى المسؤولين السوريين.
اذا كان الأسد هو "الرجل الخامس" فإن هذا سيكون له مضامينه الخاصة. التقرير السابق الصادر عن الامم المتحدة بشأن اغتيال الحريري والذي كتبه نائب مفوض الشرطة الايرلندي بيتر فيتزجيرالد، اشار هذا التقرير بشكل خاص الى أن الرئيس السوري قد هدّد الحريري في احد الاجتماعات التي عقداها في شهر آب الماضي، وذلك عندما مارست سوريا الضغط على رئيس الوزراء للموافقة على تعديل الدستور لتمديد الفترة الرئاسية للرئيس اميل لحود. ان قيام ميليس بإثارة مثل هذه الحادثة مع الأسد (ومن الصعب تصور الكيفية التي سيتم بها ذلك دون اجراء مقابلة) سوف يظهر بأن ميليس لا يهاب مهما كانت نتائج التحقيقات.
في الوقت الذي يجب فيه انتظار صدور التقرير النهائي، تدور الشائعات في بيروت حول دخول مسؤولين سوريين مرموقين، بينهم أشخاص من عائلة الأسد، الى لائحة الاتهام في حادثة قتل الحريري. ربما يكون هذا صحيحاً وربما لا، ولكن هذا الاتهام نفسه قد رددته مصادر موثوقة، اضافة للمصادر الصحفية، مشيرة الى أن الأسد اعترف تقريباً بوجود تورط سوري ( بينما برّأ نفسه شخصياً) وذلك في اجتماع عقد في آذار الماضي في الرياض مع ولي العهد عبد الله، الذي أصبح ملكاً اليوم.
ان ما يخشاه الكثير من اللبنانيين هو احتمال اشارة ميليس الى حزب الله. ليس هناك ما يشير الى وجود أي دور لحزب الله في عملية اغتيال الحريري ( ومع ذلك أشارت تقارير الصحافة الى أن فريق الأمم المتحدة طلب خرائط توضيحية للمناطق المحيطة بمخيمات الفلسطينيين في ضواحي بيروت الجنوبية التي ينشر فيها حزب الله نفوذه). بعض المحللين لمحوا الى وجود تلاعب ربما من طرف معسكر لحود المخيف، وذلك لمنع كشف النقاب كاملاً في هذه التحقيقات، خاصة وأن تورط حزب الله الشيعي في مقتل سياسي سني يزيد من احتمال وقوع نزاع طائفي. في آذار الماضي قال لي أحد السياسييين اللبنانيين المرموقين " لا استبعد تورط حزب الله في عملية الاغتيال" مع انه لم يقدم أي دليل على ذلك.
شائعات اخرى من الصعب أيضاً تعزيزها، كانت قد نشرت على الانترنت وفي صفحات الصحافة دون وجود من تنسب اليه، تقول هذه الشائعات بأن ضابط استخبارات سوري كان قد طلب لجوءاً سياسياً الى فرنسا، قد قدم معلومات مفصّلة حول عملية اغتيال الحريري للاستخبارات الفرنسية وذكر أسماءً أيضاً. أحد مواقع الإنترنت العربية حدد اسمه بـ زهير س. ولم يكن هناك اشارات واضحة الى هيئة الاستخبارات التي كان ينتمي لها، ولكن من الوضح أنه كان مدير مكتب قائد الاستخبارات السابق الجنرال حسن خليل. ولكن مرّة ثانية يجب التعامل مع المسألة بحذر وذلك الى أن يطلق ميليس نتائج تحقيقاته.
وسط كل هذه الشائعات، يغلب استنتاج واحد على الظهور وهو: سوف يلام المسؤولون اللبنانيون على تكتمهم على الأقل على الجريمة. في لقاء أجرته معه صحيفة لو فيغارو الفرنسية وصف ميليس قائد الحرس الجمهوري مصطفى حمدان على أنه "مشتبه به". قليلون هم من يعتقدون بأن حمدان – في الحقيقة لحود فوقه ونصيره- هو المسؤول عن اصدار أمر اغتيال الحريري. ولكن هناك الكثير من الدلالات التي تشير الى أن القصر الجمهوري عمل على تغطية ساحة الجريمة المنسوفة فوراً بعد مقتل الحريري. تقرير فيتزجيرالد أشار بشكل خاص الى وجود تلاعب بالأدلة وخلص الى: ان الاسلوب الذي تم من خلاله تنفيذ التحقيق يظهر، على الأقل، وجود إهمال كبير، وربما كان مصحوباً بأعمال اجرامية".
وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 1595 القاضي بتشكيل لجنة ميليس فإن من تثبت عليهم التهم بموجب التحقيق سوف يحاكمون أمام القضاء اللبناني. في تقريره التمهيدي كتب المحقق الألماني أن العديد من الشهود كانوا من تقديم شهادتهم أمام السلطات اللبنانية. من الواضح أن المحاكم اللبنانية لا تملك الوسائل اللازمة لتقديم أي شخص إلى العدالة نظراً لتفكك وضعف البلاد، ولا الأجهزة الأمنية قادرة على حماية الشهود، خاصة في حال تأكد تورط سوريا. هذا أدى إلى تعاظم الشكوك، ودعمت هذه الشكوك بتصريحات رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة القائلة أنه قد يكون هناك حاجة لمحكمة دولية من أجل التعامل مع المجرم. من شأن هذه الكلمات أن تخيف النظام السوري (في حال عثر ميليس على صلة لسوريا) فهي تعني أن سوريا سوف تصبح دولة منبوذة من المجتمع الدولي أكثر مما هي عليه الآن، ومن غير المحتمل أن يتمكن الأسد من النجاة من ضغط سياسي بهذا الحجم.
خلال الأسابيع القادمة سوف نعرف ما إذا كان تحقيق ميليس سيؤدي إلى زلزال كما تنبأ البعض، أما الآن فإن اللبنانيين ما يزالون يحبسون أنفاسهم خوفاً من الانتقام السوري، لكنهم في نفس الوقت يأملون أن تثبت براءة حزب الله حتى لا يحصل توترات بين السنة والشيعة. لكن الكل قلق لعلمه أن الحقيقة قد تكون مؤلمة.