نبدأ بحادثة طريفة حدثت أثناء الاستعمار الفرنسي لسوريا و تحفظها ذاكرة بعض الدمشقيين حتى اليوم،فحوى الحادثة أن أحد الوطنيين المناهضين للاستعمار تجادل مع ضابط سنغالي في الجيش الفرنسي حول الاستعمار،و الوطنية،و حق الشعب العربي السوري بالاستقلال و الحرية،و عندما وصل النقاش إلى ذروته فإذ بالسنغالي،المرتزق،يلقي بورقته الرابحة على حد زعمه فيصرخ بوجه الوطني،العربي السوري:
- Noi veneur pour civilizer toi
و هذا ما يمكن ترجمته للعربية،إذا أردنا أن ننقل روح العبارة :
- جيتوا أحضركي أنتي.
أي أن السنغالي على حد زعمه جاء ليحضر العربي السوري،لكنه قالها بجهل مريع بقواعد اللغة الفرنسية!!و من يعرف قواعد اللغة الفرنسية سيدرك المفارقة على الفور.
منذ أن بدأت الظاهرة الكولونيالية،مع صعود الغرب إلى مسرح السياسة الدولية قبل خمسمائة عام و قيامه باجتياح دموي للعالم،ظهرت كتابات كثيرة تناولت بالنقد و التحليل الخطاب الكولونيالي،فأشبعته تفكيكاً و تركيباً و تشريحاً حتى صارت كل تفاصيله معروفة،فجميع البشر يعلمون اليوم أن الغرب أثناء اجتياحه الدموي لأمريكا و آسيا و أفريقيا تسلح بخطاب تحضير العالم،فالعالم،خارج أوربا في البداية،ثم خارج أوربا و أمريكا،حسب هذا الفكر،هو عالم بدائي،غير متحضر،متوحش،و ثني....الخ،و قد اختار الله الشعوب الغربية لنشر الحضارة بين هذه الشعوب و تمدينها و تخليصها من وثنيتها،و اليوم نعيش في ظل الطبعة الجديدة من خطاب تحضير العالم على الطريقة الأمريكية،و هو نشر الديمقراطية،فأنظمة الحكم خارج الغرب،حسب ادعاء أصحاب هذا الخطاب،هي أنظمة توليتارية،شمولية،دكتاتورية....الخ،و على الولايات المتحدة نشر الديمقراطية الغربية و اقتصاد السوق،وهما يقدمان كتوأم سيامي لا يمكن فصله،فالديمقراطية متلازمة مع اقتصاد السوق حسب هذه الإيديولوجية،و ما على الشعوب كي تتخلص من بربريتها و تخلفها الاقتصادي و السياسي و الحضاري إلا أن تعتنق الديمقراطية الغربية و اقتصاد السوق.إن هذا الخطاب تم تشريحه مرارا وتكرارا من قبل كثير من المفكرين،كما قلنا،لكن الطرف الآخر من المعادلة و هو الإنسان غير الغربي،الإنسان المستعمر (بفتح الميم )،الذي يراد تحضيره و إدخاله في ملكوت السوق و الديمقراطية الغربية لم يتم الانتباه له،فقليلة هي الأعمال التي اهتمت بخطاب المستعمر ( بفتح الميم )،و نظرته إلى الكون و إلى نفسه،و آليات التبعية،و الدونية الفكرية التي تنمو في أحشاء مثقفيه بشكل خاص،و لعل المفكر المارتينيكي- الجزائري فرانز فانون هو أهم من كرس كتاباته لنقد و تشريح صورة المستعمر ( بفتح الميم ) عن العالم و عن نفسه،و يبقى كتابه (( بشرة سوداء – أقنعة بيضاء )) الذي يحلل به نظرة الأسود المستعمر( بفتح الميم ) إلى العالم و إلى ذاته،و علاقته بالمتروبول الاستعماري،و علاقته بلغة السيد الأبيض مرجعا أساسيا في فهم سيكولوجية الإنسان المستعمر ( بفتح الميم ) بغض النظر عن لونه و عرقه .
عندما يقول الغربي إنه خرج من قارته لتحضير العالم فهو يتوقع من البربري الوثني،المتخلف،الدكتاتوري،أن يخجل من بربريته،و يعلن استعداده لدخول جنة الحضارة الغربية،فتسارع هذه الشعوب ( البربرية ) إلى تبني نموذج الحضارة الغربي من تلقاء ذاتها حتى تخرج من وضعها الدوني،و من هذه النقطة يمكننا فهم لم توقع الأمريكان أن تخرج حشود الشعب العراقي لاستقبالهم أثناء الغزو!!و إذا كان هذا الأمر لم يحدث في العراق فإنه قد حدث عبر التاريخ مراراً،فكثير من الشعوب تبنت الصورة التي رسمها الغرب لها،فتركت نفسها مادة لعبثه ليشكلها كما شاء.يقول فانون:
((تنشأ داخل الشعوب المستعمرة عقد دونية تجاه المستعمر فيحاول أفرادها اعتناق قيم المتروبول الثقافية )) و بالنسبة للأسود،كما يحلل فانون،سيكون أبيض بقدر ما يرفض سواده ( دغله ).و يوجه فانون أنظارنا بشكل خاص إلى هؤلاء الذين يقفون في المنتصف.يقول:
((...........و في ألوية القناصة السنغاليين كان الضباط المحليون مترجمين،في المقام الأول.فهم يقومون بنقل أوامر السيد إلى أبناء جلدتهم،و يتمتعون هم أيضاً ببعض التكريم ))
فعند هذه الفئة تكون عقدة الدونية في أشد حالاتها،لأنهم يقفون في المنتصف،بين سواد الشعب المستعمر ( بفتح الميم ) و المستعمر ( بكسر الميم )،فهم يتمتعون ببعض مزايا الحالة الكولونيالية لأنهم وسيط المستعمر( بكسر الميم )،فهم الذين ينقلون أوامره إلى أبناء جلدتهم،و بالتالي يحظون بفرصة أن يعاملوا أبناء بلدهم كما يعاملهم أسيادهم،كما أن هذا الوضع القلق يجعلهم أكثر اضطرابا فلا هم من سواد الشعب المستعمر ( بفتح الميم )،و لا هم من المستعمرين ( بكسر الميم )،لذلك يحاولون بكل الطرق تبني قيم أسيادهم لكنهم يفشلون لأن السيد يرفض أن يضمهم إلى معسكره،و هم يخشون العودة إلى حياتهم الماضية حين كانوا من سواد الشعب. بل إن هذه الفكرة تصيبهم بالرعب لذلك يصبون أحقادهم على أبناء أمتهم و كأنهم ينتقمون من حياتهم الماضية حين كانوا جزءاً من هذا السواد،و لتعميق رفضهم للعودة إلى الوضع السابق حين كانوا من سواد الشعب المستعمر ( بفتح الميم ).
و يلاحظ فانون أن محاولة التماهي مع قيم المتروبول أوضح ما تكون في موضوع اللغة فيصف سلوك المارتينك حين يصلون إلى باريس و محاولاتهم للتحدث باللغة الفرنسية بفصاحة مبالغ بها كي يتماهوا مع أسيادهم.يقول:
(( حين وصل مارتينيكي إلى الهافر،دخل إلى مقهى.و صاح بثقة تامة:
- Garrracon! ve de bie
و هكذا نشهد تسمما حقيقاً.فهو مهووس بعدم التماهي مع صورة الزنجي الذي يأكل حروف الراء.فتزود منها بالزاد الوفير.لكنه لم يعرف كيف سيوزع مجهوده ))
و من البداهة أن يتبنى هؤلاء أفكار سيدهم و نظرته للعالم و للشعوب الأخرى.و هذا ما عبر عنه الضابط السنغالي خير تعبير حينما تبنى خطاب سيده الفرنسي عن مهمة تحضير العالم،و حين تبنى لغته بهذا الشكل المضحك. لكن هل انتهت ظاهرة الضابط السنغالي هذا؟
- أبدا .
إن المعادل الموضوعي في عالم اليوم لهذا الضابط السنغالي،هم مثقفو العالم الثالث لا سيما إن كانوا من أولئك المحظوظين،الذين أتيحت لهم فرصة الدراسة في جامعات الغرب ، فنراهم يعودون إلى وطنهم محملين بالحقد على ثقافتهم الوطنية و على كل شيء يخص بلدهم.
يصف فانون سلوكيات الأسود لدى ذهابه إلى المتروبول و لدى عودته،و أنا أعتقد أن هذا الوصف ينطبق على أغلب مثقفي العالم الثالث،الذين قاموا بهجرة حقيقية أو افتراضية عبر الدراسة في جامعات غربية ، أو مناهج غربية المحتوى و القالب ، فتشبعوا بها إلى حد تبني القيم الثقافية الغربية.يقول:
((....الذي يدخل فرنسا يتغير،لأن المتروبول يمثل بنظره المستقر و الملاذ،إنه يتغير ليس فقط لأن من هذه الأرض جاءه مونتسيكو،روسو،و فولتير،بل لأن من هناك جاءه الأطباء و رؤساء الخدمة،و أيضا صغار المتسلطين الذين لا يحصون........فذلك الذي يسافر لمدة أسبوع في اتجاه المتروبول يخلق حوله دائرة سحرية حيث تمثل الكلمات،مارسيليا،لا سوربون،بيغال،مفاتيح العقد....))
و عندما يعود إلى وطنه:
((...لنمض للقاء واحد ممن عادوا.(( العائد )) يؤكد نفسه منذ اتصاله الأول،فهو لا يرد إلا بالفرنسية و غالباً لا يعود يفهم لغة الكريول (( لغة شعبية في المارتينيك )).حول هذا الموضوع،يقدم لنا الفولكلور أمثلة.بعد عدة أشهر في فرنسا عاد فلاح إلى أهله.و عندما رأى آلة حراثية،سأل أباه،و هو مزارع عتيق لا يفوته شيء: (( كيف تسمي هذه الأداة؟))،و كان رد أبيه الوحيد أن رماها،و عندها زال فقدان الذاكرة.إنه علاج فريد من نوعه.))
و يحدثنا فانون عن عائد آخر يتحدث عن الأوبرا،التي ربما لم يرها إلا من بعيد،و يعتمد بشكل خاص موقفاً ناقدا من مواطنيه فلدى حدوث أي حدث،يتصرف تصرفاً مغايراً،فهو الذي يعرف.إنه يكشف عن نفسه بلغته.و يحدثنا عن ذلك العائد الذي يتذمر من الطقس الحار في وطنه...
إن التفسير الوحيد لهذا التبدل و لهذه المواقف هو الدونية التي يشعر بها أبناء المستعمرات الذين احتكوا بالغرب،و أشد ما تتوضح هذه الدونية اليوم عند فئات المثقفين،لأنهم يستطيعون التعبير عن أنفسهم سياسياً و ثقافياً فيجسدون موقفهم الدوني من الغرب بأفعال و أقوال تتمكن الناس من التقاطها بسهولة،و أما بقية الشعب التابع،أو المستعمر فهي تعاني من الشعور بالدونية بشكل أو بآخر تجاه لغة المستعمر و عاداته و تقاليده،خاصة عندما تكون خانعة لم تفرز مقاومة فعالة بعد،فهي تقدس كل ما يأتيها من الغرب،فالطبيب الذي يضع على لافتة عيادته أنه متخرج من فرنسا أو أمريكا سيضمن تدفق المرضى على عيادته بغض النظر عن نوعية الخدمة الطبية التي يقدمها،و الطبيب الذي يقول إنه يعالج بالطريقة الأمريكية و يطعم كلامه بعبارات إنكليزية غامضة سيضمن تعامل المرضى معه و كأنه إله!!و تقبل الجماهير على استهلاك المنتجات الغربية مهما كانت رديئة و تفضلها على المنتج الوطني ، الذي قد يكون أفضل منها ، و شهيرة هي قصص التلاعب التي يقوم بها بعض التجار فيكتبون على منتجاتهم الوطنية أنها صنعت في الغرب فيقبل المستهلكون على شرائها بعد إحجام !!
كما أن المثقفين هم الأكثر معرفة بعادات الغرب و ثقافته نتيجة احتكاكهم بها لذلك تتولد هذه العقد بشكل أكبر لديهم.و تكون هذه العقد عندهم أشد خطورة من عقد الشعب البسيط لأنهم في نهاية الأمر هم من يقررمصير مجتمعهم،فتخيل أي مصير سيكون لمجتمع تحكمه نخب تحتقر ثقافتها و تحتقر مجتمعها و تتبنى خطاب الغرب تجاه حضارتها،فهي بنظرهم بدائية،بربرية،غير متحضرة..!!
و بعد كل ذلك تمتلك عامة الشعب فرصة التحرر من هذه الدونية،و هو أمر لاحظه فرانز فانون من خلال تجربة الثورة الجزائرية،فما إن امتشق الشعب الجزائري السلاح في وجه مستعمريه و صنع ثورته حتى توازن المواطن الجزائري نفسياً،فلم يعد موقفه من الحضارة الغربية ينحصر في أحد موقفين،إما الرفض المطلق،أو التبني الأعمى،بل صار في موقع المتفاعل الإيجابي مع الحضارة الغربية يأخذ منها ما يلائمه و يرفض ما يضره.أما المثقفون فهم على الغالب لا يحظون بهذه الفرصة،فرصة التحرر من الشعور بالدونية عبر ممارسة العنف تجاه المستعمر،إلا من اندمج منهم تماما بحركة الجماهير و هذا أمر نادر الحدوث،فأغلبية المثقفين تفضل البقاء في موقع المتفرج على الثورة،و نادراً ما يحدث أن يحمل أحدهم السلاح و حجتهم أنهم مفكرون و ليسوا بمقاتلين!و بالتالي يفوتون آخر فرصة لاستعادة توازنهم النفسي،و استعادة ثقتهم بذاتهم القومية و بشخصيتهم الحضارية،فتبقى عقدهم الدونية تجاه الحضارة الغربية بدون حل،لأن العقد المرضية لا تحل إلا في سياق التجربة!!
و خلال القرن العشرين شاهدنا شعوب العالم الثالث تعود للوقوع في فخ الكولونيالية الثقافية و الحضارية بعد أن تحررت منها عسكرياً،لقد أعادت نخبها إنتاج التبعية للغرب عبر محاولة تقليده،و ذلك لأنها كانت تنظر لحضارتها و ثقافتها باحتقار و تعتبر أن الفرصة الوحيدة المتاحة لها كي تتحضر هي أن تلتحق بالغرب و لا يتم ذلك إلا بإلغاء الذات الوطنية المتخلفة البربرية بنظرهم،و في بعض الحالات أتيح للدائرة الجهنمية أن تكتمل فاستلم،أمثال هذا الضابط السنغالي،السلطة بشكل مباشر،و هو أمر حدث في مناطق كثيرة من العالم إذ التحق أمثال هذا الضابط بثورات بلدانهم في الربع ساعة الأخير قبل انتصار الثورة و سريعاً استولوا على مقاليد الأمور.
إن عراق اليوم،الذي تعيد أمريكا عبره إنتاج الكولونيالية،يقدم لنا خبرات هائلة عن السلوك الدوني لدى بعض النخب و عن احتقارها لذاتها الوطنية و القومية.يكفي أن تستمع لتصريحات هذه النخب المتعاونة مع الأمريكان لتؤلف كتابا في علم النفس المرضي عن العقد الدونية المترسخة داخلهم،فهم كالعجينة بيد المستعمر،يتشكلون كما يريد،يتبنون خطابه بشكل أعمى ، و صورتهم عن أنفسهم هي ما يصفهم به المستعمر ، فكل تعابيرهم و مفرداتهم مصدرها قاموس المحتل.لكن التاريخ لم يسعف هذه النخب التابعة الدونية بفرصة كي تمارس فيها أمراضها النفسية و عقدها على أبناء شعبها لأن الشعب حمل السلاح و قاوم محتليه و بالتالي لم يسقط في فخ الدونية كما كان يراد له.