لأن إثيوبيا دولة فقيرة لا تملك حاملات طائرات، كما أنها منذ استقلال ارتيريا لم تعد مشاطئة للبحر، لذلك لم يتح لميليس زيناوي ترف أن يعلن انتصاره على قوات المحاكم الإسلامية في الصومال من على حاملة طائرات، كما فعل جورج بوش في الحالة العراقية، فاكتفى – ميليس- بإعلان ذلك من على شاشة قناة الجزيرة، ولو كان يمتلك قليلا من الحكمة لتريث متعظاً من تجربة جورج بوش العراقية، فحتى العميان ومن لا يفقهون في السياسة أدركوا أن "نموذج بغداد" هو ما ينتظر القوات الإثيوبية في مقديشو.
وبالفعل لم يتأخر "نموذج بغداد" على القوات الأثيوبية في مقديشو، فطارت سكرة النصر العسكري السريع في صفحة المجابهة النظامية من رأس ميليس زيناوي ـ وللتذكير هي نفس سكرة جورج بوش من قبل - وجاءت الفكرة مع اندلاع حرب العصابات وصور الجنود الإثيوبيين المسحولين في شوارع مقديشو، كما سحل الجنود الأمريكان في نفس المكان من قبل. وبدأت القوات الإثيوبية تغوص في وحول المستنقع الصومالي، كما حصل تماماً للقوات الأمريكية في العراق التي تحاول منذ أربع سنوات تناول الحساء بالشوكة، كما يوصّف الجنرال جياب حرب العصابات بالنسبة للقوات النظامية.
وصل ميليس زيناوي إلى حكم أمة عريقة ذات تاريخ موغل في القدم بعد أن نقل البارودة من الكتف الأيسر إلى الأيمن، فاستبدل ماركسيته بايديولوجية العصر الإمبريالي، وسلّم بسهولة بالغة بالحل الذي اقترحه الأمريكي السيد المطلق على العالم في ذلك الوقت فأقر باستقلال ارتيريا بشكل تام، وهذا حق للأريتيريين لا يمكن لأحد أن ينازعهم به، لكن كان يمكن لزيناوي درءاً للمشاكل المستقبلية أن يتصلب قليلاً فيطلب فقط حق المرور إلى البحر الأحمر عبر ميناء مصوع أو غيره مقابل استقلال ارتيريا، كي لا تتحول بلده إلى بلد معزول عن البحر. إلا أنه في سياق استعجاله الرضا الأمريكي بحكمه رضخ لكل إملاءات واشنطن، التي كانت تريد لأريتريا اليد العليا في المنطقة، قبل أن تنقلب التحالفات لاحقاً فتعود أثيوبيا محظية أمريكية أساسية في "الحرب على الإرهاب"، من مطاردة المحاكم الإسلامية إلى سجون الـ C I A السرية التي كشف أمرها مؤخراً.
بات طموح زيناوي أن يتحول إلى وكيل اقليمي للولايات المتحدة، أو قوة إمبريالية فرعية في المنطقة، حسب مفهوم "الإمبريالية الفرعية" الذي طوره سمير أمين مع نخبة من مفكري الجنوب، أي أن يتعهد القيام بالمهام الموكلة له من قبل المركز الإمبريالي، مثل ضبط المحيط، مقابل حصة من النهب تحت اشراف المركز الإمبريالي.
لكن في غمرة فرحة زيناوي لاستعادته الحظوة لدى الإدارة الأمريكية واستعجاله للقيام بالمهام الموكلة له لم ينتبه للعطب الذي أصاب الإمبريالية الأمريكية "الأصلية" بفضل المقاومة العراقية، ولو انتبه لأدرك أن ما ينتظر "الإمبريالية المقلدة" هو نفس العطب الذي أصاب "الأصلية".
وبالفعل وعلى شاكلة ما حدث في العراق من اختفاء سريع لقوات الجيش والحرس الجمهوري اختفت قوات المحاكم الإسلامية. ويبدو أن هذه الإستراتيجية في طريقها لتتحول لإستراتيجية عسكرية تطبق في المعارك التي ينعدم فيها التكافؤ الميداني، فيقوم الطرف الأضعف العاجز عن القيام بمجابهة عسكرية نظامية بطي الصفحة النظامية منتقلاً إلى صفحة حرب العصابات. هذا ما حدث في بغداد قبل أربع سنوات ويتكرر بحذافيره اليوم في مقديشو. وعلى شاكلة الغرق الأمريكي في العراق غرق الإثيوبيون في الصومال. وعلى شاكلة ما سيكون عليه المشهد الختامي للقوات الأمريكية في بغداد سيكون المشهد الختامي للقوات الإثيوبية في مقديشو (وقد سبق أن شاهدنا نسخة منه في هانوي). لكن السؤال أي مشهد سيحدث أولاً، "مشهد مقديشو"، أم "مشهد بغداد"؟
إن حدث "مشهد مقديشو" أولاً فتأكدوا أنه بروفة أولية "لمشهد بغداد" القادم، أما إن حدث العكس فإن "مشهد مقديشو" سيبدو إعادة "لمشهد بغداد" ولن ينتبه له أحد.