من يتابع ما يكتب من تحليلات حول الأزمة السياسية العامة التي تحيق بالمجتمعات العربية يكاد لا يجد مصطلحا أكثر استخداما من مصطلح الطائفية. وبينما ينظر البعض للطائفية والعشائرية بوصفهما عاملين أساسيين في تكوين الهوية السياسية للمجتمعات العربية ويعزو لهما مفاعيل استثنائية على تطور النظم السياسية والقيم الاجتماعية يرى فيهما البعض الآخر ثمرة تلاعب القوى الأجنبية وتجسيدا لإرادتها السرية والعلنية في تقسيم البلدان العربية وتفكيك الدول إلى دويلات غير قابلة للحياة. وقد جعلت أغلب الحركات الوطنية التي نشأت في بداية القرن العشرين من الكفاح ضد الطائفية والعشائرية شعارا رئيسيا من شعاراتها ونظرت بعداء شديد لأي شكل من أشكال التعبيرات الطائفية. وفي وقتنا الراهن كثيرا ما يركز المحللون على الانقسام الطائفي لتفسير الأزمة الطاحنة التي تواجهها معظم الدول والمجتمعات العربية في مساعيها لإقامة نظم ديمقراطية أو حتى لتجنب مخاطر الحرب الأهلية.
ولا يزال الكفاح ضد الطائفية يشكل محور الأفكار التحررية التي تنادي بها الحركات القومية واليسارية التي ترى في استمرار وجودها عائقا رئيسيا أمام تطور الولاءات الوطنية. ويقدم الوضع القائم في لبنان والعراق واليمن والنزاعات العنيفة التي شهدتها هذه المجتمعات ومجتمعات عربية عديدة أخرى في نظرهم نماذج حية للدور السلبي الذي تلعبه الطائفية في قطع الطريق على نشوء الدولة القومية وفي التمكين للاحتلال وسحب البساط من تحت أقدام الحركة الوطنية وفشل التحولات الديمقراطية.
لقد تحولت الطائفية في اللغة السياسية التقدمية العربية إلى لعنة تاريخية وعاهة مجتمعية لا يعرف أحد كيف يمكن احتواء تأثيراتها السلبية ولا التخلص منها وأصبح الخوف من تفجراتها عقبة أمام تطور المناقشة السياسية نفسها. ولا يعادل الكره الذي يتراكم ضدها سوى الخوف من التأمل الموضوعي فيها وفي أسباب بقائها وانتشارها. ولذلك قر السلوك العربي على نوع من السكيزوفرينيا السياسية. ففي الوقت الذي لا يكف فيه الفرد عن إدانة الطائفية والتبرؤ من شرورها يجد نفسه مدفوعا بإرادته وأحيانا من دون إرادة ليكون ضحية رهانات وتلاعبات وحسابات طائفية لا حدود لها.
يخلق الحديث المتكرر عن الطائفية وعيا شقيا لدى المجتمعات العربية التي تشعر بأنها ضحية آلية عمياء جبارة تفرض عليها الانقسام بين عصبيات متنافرة وتغلق أمامها أبواب التحولات السياسية الديمقراطية والوطنية. وبقدر ما يفقد هذا الشعور الثقة المتبادلة بين أبناء الطوائف المختلفة التي تتبارى في اتهام بعضها البعض بإخفاء النوايا والرهانات الطائفية يزرع الشك واليأس عند المجتمع بأكمله في إمكانية التعايش داخل الوطن الواحد، بل في إمكانية بناء مثل هذا الوطن الذي يفترض التضامن والتكافل والتعاون بين جميع أفراده بقدر ما يجمعهم تحت سقف واحد ويفرض عليهم مصيرا مشتركاً.
والواقع أن التركيز على الطائفية والبنيات العشائرية في البلدان العربية لا يعكس إدراكا لمخاطر حقيقية وحتمية بقدر ما يعبر عن الكسل والبؤس اللذين اتسم بهما الفكر القومي والوطني المحلي الذي اتجه في سعيه لإقامة دولة وطنية حديثة وإضفاء المشروعية السياسية عليها إلى التركيز على مسألة الهوية والتجانس والاندماج بدل بناء مفهوم المواطنية والتأكيد على واجب الدولة الحديثة في تأمين شروط الممارسة القانونية لها وبالتالي تأمين حرية أبنائها ومساواتهم. فقد سعت الدولة المحلية إلى التعويض عن غياب المواطنية في مشروعها، أي عن غياب مشروع الدولة الوطنية الحديثة بالفعل عنها، بتضخيم الحديث عن الهوية والانتماءات الثقافية والتاريخية الأحادية. وكانت النتيجة توليد نزعة وطنية انصهارية صماء تتطابق مع مفهوم العصبية الطبيعية أكثر مما تعبر عن نشوء فكرة وطنية وشخصية سياسية حقيقية.
وهكذا أصبح التعدد الطائفي الذي ينبغي أن ينظر إليه على أنه ثروة وطنية بدل أن يعاش كعاهة مجتمعية يبدو وكأنه نقمة إلهية. وأصبح الوضع الطبيعي الذي عرفته المجتمعات منذ قرون وبنت من حوله نظمها الأخلاقية الرئيسية بما تعبر عنه من قيم التعايش والتسامح التاريخية التي ميزت المجتمعات العربية والاسلامية، يظهر وكأنه وضع نشاز يميز المجتمعات العربية ويفصلها عن المجتمعات الأخرى الطبيعية ويحط من قدرها وقيمتها الجوهرية.
والواقع، ليس تعدد الطوائف ولا استمرار البنيات العشائرية هو السبب في تخلف بنية الدولة الوطنية العربية ولا هو المسؤول عن تعثر مشاريع الاندماج الوطني وتقدم مشاريع التحويل الديمقراطية. ولا يشكل كلاهما أي لعنة أبدية أو تاريخية. فجميع المجتمعات مكونة من جماعات متعددة ويمكن تخفيضها جميعا إلى مجموعة لا نهائية من الأقليات الثقافية والدينية والعرقية والمهنية والجنسانية والحضرية والريفية وغيرها. والمجتمعات الصناعية المتقدمة أكثر تعددية اليوم طائفيا وعرقيا من المجتمعات العربية. وما تتميز به مجتمعات الصين والهند وغيرها من المجتمعات الآسيوية عموما يفوق بما لا يقاس ما تعرفه المجتمعات العربية التي تبدو في هذا المنظور مجتمعات شديدة التجانس والأحادية الثقافية.
وهذا التعدد الواسع في المجتمعات الأسيوية يعبر، بعكس ما هو شائع، عن درجة الازدهار الحضاري الذي عرفته هذه المجتمعات في الماضي، والذي يدفع إلى تنمية التعددية بقدر ما تشكل الحضارة قوة جذب للجماعات وما تقدمه من فرص لنمو قيم التسامح والتعايش وما تحتاج إليه أيضا من علاقات التفاعل والتبادل والتواصل بين الثقافات وما تنميه من حريات فردية وجمعية تتيح نشوء الهويات المتميزة وتدفع إلى التغاير بين مجموعات الرأي والثقافة. وإذا كان لوجود أغلبية ثقافية أو دينية دور كبير في خلق شعور بالاستقرار والاستمرارية والثبات عبر التاريخ لدى المجتمعات فدور الأقليات العابرة للمجتمعات والثقافات لا بديل عنه في تحقيق التفاعل الإنساني كناقل للمكتسبات التقنية والعلمية والفكرية عبر الحدود والبلدان والحضارات.
لقد كانت الطائفية دائما موجودة في المجتمعات العربية وستظل موجودة في المستقبل وهي موجودة أيضا في بلدان عديدة تعيش في ظل نظم ديمقراطية. وليست هي التي تشكل العقبة أمام تقدم قضية التحويل الديمقراطي. إنها تتحول إلى مشكلة عندما تصبح الإطار الوحيد للتضامن بين الأفراد ويتغلب الانتماء للطائفة أو العشيرة على الانتماء للجماعة الوطنية.
ولا يحصل ذلك إلا عندما ينهار إطار التضامن الوطني الذي يجمع الأفراد على صعيد أعلى وأشمل وتزول فعالية الرابطة الوطنية، وهو نتيجة مصادرة فريق واحد للدولة وللسلطة الوطنية ووضعهما في خدمة مصالحه الخاصة. وهكذا تكف الدولة عن أن تلعب دور الحاضنة العامة لجميع الأفراد بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الطائفية. ولذلك يكفي أن نعيد إلى الدولة طابعها الوطني أي العمومي حتى يتراجع الانتماء الطائفي إلى الدرجة الثانية ولا يصبح هناك تناقض عدائي بين الرابطة الوطنية والرابطة الطائفية أو الإثنية.
والمقصود أن التركيز الدائم والمستمر في تحليل الأزمة الوطنية على التعددية الطائفية والقومية وتحميلها مسؤولية فشل النخب العربية الحديثة الثقافية والسياسية في بناء أطر وطنية حقيقية يهدفان إلى التغطية على القضايا الرئيسية وتبرير الهرب من مواجهة المسؤوليات التاريخية وما ينطوي عليه من رفض النخبة السياسية المراجعة النظرية والعملية للأفكار والسياسات والاستراتيجيات التي أودت بمشروعات بناء الدول الوطنية والقومية العربية. وبالعكس ينبغي أن يصب التركيز على عملية تدمير الدولة وتحويلها إلى أداة لخدمة المصالح الخصوصية، لأن استرجاع فكرة الدولة وموقعها في الحياة الوطنية هو السبيل للخروج من الطائفية المرتبطة به في الوقت نفسه. باختصار، إن التعددية بكل وجوهها وأشكالها ليست خطأ تاريخيا ولا بنية نشازا ولكنها الأمر الطبيعي والشائع أيضا في أي مجتمع متمدن لا يمكن أن يخفض منطق انتظامه إلى مستوى منطق الأسرة أو العشيرة أو الطائفة الواحدة. وهي لا تنتج طائفية سياسية بالضرورة وليست هي التي تفسر ظهورها. إن المشكلة تبدأ عندما يوضع الانتماء الخاص الطائفي وغير الطائفي محل الانتماء الوطني العام أو يتقدم عليه، والمطلوب عندئذ معرفة كيف ولماذا يتقدم مثل هذا الولاء الخاص في هذه الفترة أو تلك وفي هذا المجتمع أو ذاك على الولاء الوطني العام. وهو ما يطرح سؤال أصل الطائفية السياسية. وللحديث بقية.