تتعاظم الأصوات المؤكِّدة على أن الظاهرة القومية دخلت مرحلة انحسارها مع اتساع ثورة الاتصالات وتحولها إلى ظاهرة كونية، ونلاحظ ذلك كذلك في بعض أوساط الفكر العربي. والمسألة التي يراها هؤلاء بمثابة التأسيس لتلك الفكرة، تتمثل في أمرين اثنين، التاريخ أولاً والاعتقاد بأن الديمقراطية الليبرالية هي اليوم حقاً النظام السياسي الأفضل والأكثر قدرة على تلبية احتياجات البشر ثانياً. ويبدو أن الإخفاقات التي مرت بها الظاهرة القومية في كل العالم العربي من طرف، والنجاحات التي تحققها الديمقراطية المذكورة في الولايات المتحدة بصيغة ثورتي الاتصالات والمواصلات، من طرف آخر، تسهمان في تعميق فكرة البدء بمرحلة انحسار القومية فكرة ودولة وأيديولوجيا ومستقبلاً. ويلاحظ أن هذا الموقف يأتي في سياق الاستحقاق الذي تطرحه "ما بعد الحداثة" ويندرج فيها، قياساً على أن قطيعة تاريخية ومعرفية تحدث أو يُراد لها أن تحدث بين عالم الحداثة "الهرِم والشائخ" وعالم ما بعد الحداثة الفتي والمتقدم. وفي هذه الحال، يدخل مفهوم القومية مع مفاهيم أخرى يُبشّر بها، في هذا النسق ما بعد الحداثوي.
والحق، أن أصحاب وجهة النظر المذكورة يتناولون ظاهرة القومية من موقع رؤية تاريخية مبسّطة تُفضي إلى نمط من اللاتاريخية. ونأخذ هنا مثالاً يقدمه الأستاذ الباحث تركي الحمد في كتابه "الثقافة العربية في عصر العولمة"، وهو بلاشك كتاب نقدي جاد. في هذا الأخير، يكتب تركي الحمد ما يؤدي إلى القول بمستقبل "لا قومي" على صعيد شعوب العالم: "التاريخ الفعلي، وليس مفهوم التاريخ لدى هذا المفكر أو ذاك، أثبت أن القومية، والدولة القومية، لم تكن نهاية المطاف، بل إن متغيرات عصرنا توحي بأننا نعيش مرحلة ما بعد القومية أو إرهاصاتها".
في مناقشة وجهة النظر المذكورة، التي يجعلها تركي الحمد متطابقة مع واقع الحال الذي انتهى إليه العالم الراهن في ظل العولمة، يمكن القول إن القومية ليست فوق التاريخ، شأنها في ذلك شأن غيرها من مفاهيم الفكر السياسي. بيد أن ما يتعلق بـ"القومية" ربما كان أكثر تعقيداً، ويحتاج من ثم إلى مزيد من التدقيق. فهي، أي القومية، إذ نشأت في العصور الحديثة، فإنها -بذلك وعلى طريق استجابتها للاستحقاقات السياسية التاريخية التي تمثلت خصوصاً في تكوين دولة قومية.
هذا أولا؛ أما على صعيد آخر أكثر ضبطاً وتخصيصاً لما نحن بصدده، فإنه من الراجح جداً أن نتحدث عن أن العرب مع دخولهم في صراع قومي (إضافة إلى صراع ديني وغيره) في القرن التاسع عشر وبعده مع العثمانيين والفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين وغيرهم، أخذوا يكتشفون خصوصيتهم وهويتهم القوميتين، اللتين كانتا وتبقيان نسبيتين، كما راحوا يسعون للتنظير لذلك. ومعروف أن هذا تم -بقدر أو بآخر- بتداخلٍ مع المنظومات الفكرية السياسية الغربية، منذ ذلك الحين. والمهم أن العرب، في هذا وذاك، لم "يخترعوا" خصوصيتهم وهويتهم القومية، بل اكتشفوا الطريق للوصول إلى تحديدهما وضبطهما عن طريق تحويلهما إلى "موضوع بحث" سياسي تاريخي: إن ما اكتشفوه لم يكن -في الأساس- ما جسّد معطى تاريخياً موضوعياً، بقدر ما كان الطريق الفكري والسوسيوثقافي إلى ضبطه وتحديده. وبعد ذلك، يبدو مستحيلاً أن تتم الاستجابة للنظام العالمي الجديد (العولمي) عبر تجاوز ذلك المعطى التاريخي الموضوعي أولاً، وتجاوز ما توقف العرب عنده، وهو التأسيس لـ"دولة" أو "دول" عربية تكون بمثابة الحاضنة لمشروعهم أو مشاريعهم في الإصلاح والتنمية والتقدم والتحديث.
إن اجتياح الثورة المعلوماتية العولمية للعالم لا يجد نفسه، بالضرورة، أمام خطٍ واحد مستقيم، هو انتصار ذلك النظام العالمي الجديد، ممثلاً بـ"الديمقراطية الليبرالية"، التي يراها الأستاذ تركي الحمد "أفضل نظام سياسي ممكن ابتكره الإنسان في تاريخه". إذ إن هذه الديمقراطية الليبرالية أفصحت -في تطبيقها العملي المعيش راهناً- عن أنها "النظام السياسي" الأكثر رداءة وخطراً وتوحشاً على مصائر البشرية.