هناك استحقاقات تاريخية تفرض نفسها على البشر والمجتمعات. ومهما حاول المرء تجاهلها لابد أن تعود مرارا وتكرارا لتذكر بنفسها. ولا يمكن أن يؤدي تجاهلها إلا إلى المزيد من إلحاحها وتفاقم سوء العواقب التي يصعب في ما بعد التحكم بها أو مواجهتها.
والواقع أن النظم العقائدية التي كانت تعتمد على الحزب الواحد، وعلى التعبئة الحماسية، الحقيقية والمصطنعة معا، تفقد كل مقومات وجودها ومؤهلاتها الإنسانية منذ اللحظة التي تتفتت فيها عقيدتها أو تذبل وتموت. فهي تتحول عندئذ إلى نظم تسلطية من دون أي غلالة سحرية. ويتخذ الحكم فيها أكثر فأكثر طابع السطو المسلح على حياة الناس وأرزاقهم ومصائرهم. وكانت عقيدة النظام الشمولي الفعلية، في كل مكان وبصرف النظر عن اختلاف الثقافات والأديان، وجود الرئيس -الرب نفسه وتجليه في الحياة العمومية والخصوصية. فلم يكن هو مؤسس النظام ومحركه فحسب ولكنه كان روحه وإلهامه في الوقت ذاته. وفي جميع هذه النظم، العربية وغير العربية، كانت وفاة الزعيم الرب بمثابة خروج الروح من الجسد.
وليس المقصود بالنظام السلطة القائمة أو القائمين عليها، ولا تلك الذئاب الكاسرة التي تغرس أنيابها وكانت تغرسها من قبل في قلب الحي لتنتزع منه الحياة وتستملكها، ولكن جميع أولئك الذين كيفوا أنفسهم مع الموت وأتقنوا تجارته. وهم غالبية كبرى من الناس الذين قطعوا الأمل بحياة مدنية طبيعية وقبلوا، كلاً حسب ظروفه وإمكانياته، بالعمل والحياة خارج أي أطر قانونية وتأقلموا مع مبدأ اقتناص الفرص والمكاسب الخاصة والاستثنائية والاكتفاء بما يتوفر لهم من المصالح والمنافع الصغيرة اليومية.
فالفرد الذي لا يتردد في استخدام الرشوة أو التملق والانتهازية في سبيل الحصول على منافع وامتيازات خاصة وتجنب المنافسة الطبيعية، مثله مثل غيره كثيرين ممن يعتقدون، بطريقة أو بأخرى، أنهم مستفيدون استفادة غير قانونية وليس عليهم أن يغامروا بشيء من أجل تعديل النظام، بل إن تعديل النظام يقلل من مكاسبهم المكرسة المعنوية أو المادية. وكلهم يشكلون قوة عطالة حقيقية تسمح للنظام الجثة بأن يستمر بالرغم من الرائحة الكريهة التي تزكم الأنوف. فكل واحد من هؤلاء يجعل من منفعته الخاصة الاستثنائية كمامته الحقيقية التي تمنعه من شم رائحة الجثة المتعفنة وتمكنه من التعايش معها.
وقد نجح النظام في البقاء بتعميمه هذا الشعور بأنه ليس هناك مفهوم لحق ولا مفهوم لواجب ولا قانون. المجتمع غابة، وكل شيء يحصل عليه الفرد فهو ينتزعه بذراعه وحنكته وخبثه وفهلويته. لا شيء يكتسب بالحق والقانون والجدارة. كل شيء يكتسب بطرق لا شرعية ولا قانونية. هذا هو نظام الرشوة المعممة أو تعميم نظام الرشوة كأساس للعلاقة الاجتماعية.
من هنا لم يعد هناك مجال لا للفضاء العمومي ولا للشأن العام ولا للمصلحة العامة ولا للسياسة باعتبارها الاهتمام بالشأن العام والعمومي وإدارته وتنظيمه. الكل يبحث عن مصلحته الشخصية والكل يجتهد في الكشف عن الطرق غير الشرعية وغير القانونية التي تمكنه من انتزاع مكاسب أكثر من غيره أو أكثر مما يمكن أن يتاح لغيره منها. وكلما كانت المكاسب الناجمة عن تجاوز القانون أعظم، أي كلما كانت الرشوة والغش والاحتيال أهم، كانت سعادة الفرد أكثر.
كل شيء مكسب، والمكسب هو ما نأخذه من دون أن ندفع لقاءه أي ثمن أو جهد. نحن نبحث عن المكاسب المجانية ومجتمعنا هو مجتمع المكاسب والكسب غير المشروع، حتى لو أن الجهد الذي يبذله الأفراد لتأمين ما يقوم بأودهم ويحفظ بقاءهم بطريق الغش هو أكثر بكثير مما يبذله أي فرد لتحقيق الهدف ذاته في أي مجتمع قانوني آخر. كل واحد يعتقد أن غياب القانون، بل غياب الدولة بما تفرضه من وجود قانون واحد ناظم للعلاقات الاجتماعية ومحدد لحقوق ثابتة وواجبات ضرورية مقابلة، وهو أساس نشوء رابطة سياسية وإرادة جمعية، يضمن له مكاسب لا يضمنها تطبيقه وأن تحلُّل الدولة لصالح العلاقات الشخصية والمحسوبية يحقق له من المنافع ما لا يمكن أن تضمنه أي مؤسسة رسمية تسيرها علاقات موضوعية وعقلانية لا شخصية. لذلك ليس من المبالغة القول إن هناك مؤامرة جماعية ضد الدولة القانونية والمؤسساتية يشارك فيها جميع الأفراد.
هذا يفسر أيضا العطالة التي تتميز بها الحياة السياسية والصعوبة التي يجدها الناشطون السياسيون في الوصول إلى قطاعات الجمهور المختلفة وإيقاظها واستنهاضها وتحريكها لخلق حالة جديدة تسمح بالتفكير بدفن الجثة وإتمام مراسم الدفن والتعزية وبالتالي قطع الصلة بها وبدء حياة جديدة للأحياء. هكذا لا تزال المجتمعات العربية معلقة بأذيال الجثة الممددة للنظم الشمولية وغير قادرة على التحرر من رهاب الموت وعصابه. كأنها سكنت بالموت وأصبحت جزءا منه. وعندما تحاول الطغم الحاكمة إعادة الحياة إلى الجسد الكسيح فكأنما تعيد الحياة لعالم أشباح بالمعنى الحقيقي للكلمة لا علاقة له بعالم الواقع ولا بالحياة. ولا يتجسم الموت في المؤسسات المحنطة والمفتقرة لأي قوام ولكن أيضا في الشخصيات "التاريخية" ذاتها التي تريد أن تعيد إنتاجها من جديد على منوال الماضي فتبدو وكأنها منتزعة من القبر ومنبعثة من حياة قديمة لم يعد لها وجود.
إن مقومات نظام الموت السياسي الراهن أربعة: القبول بالعيش على مستوى الحفاظ على البقاء من دون مطالب أخلاقية، الأنانية المرفوعة إلى مرتبة مبادئ كونية، والبحث على المنافع المجانية على حساب قيمة العمل والجهد الجدي، وأخيرا ربط السعادة بالحصول على ميزة على الآخرين، أي ميزة، حتى لو كانت رمزية فالمهم هو الهرب من قانون المساواة وقاعدة الندية. وهكذا يكون البحث عن السلامة جوهر الأخلاق والحصول على المكاسب بالطرق الملتوية بديلا للتأهيل الفردي والجمعي والخروج على قاعدة المساواة مصدر السعادة والراحة والترفع على احترام القانون أساس الرجولة والأهلية.
لا يستمر الوضع القائم ويمدد حياته وهو جثة هامدة إلا بقدر ما ينجح النظام في قتل كل ما هو وعي بالشأن العمومي وتضامن مجتمعي وإنساني، أي بقدر ما يشارك كل فرد، بإرادته الخاصة أو رغماً عنه، في تهديم الحياة الأخلاقية وتأكيد الأنانية وتعميم الرشوة المادية والمعنوية والاستئثار بشارات التميز والترفع على مبادئ المساواة القانونية والأخلاقية والمعاملة بالمثل.
ومن هنا ليس المسؤول عن بقاء النظام الفئات الحاكمة وحدها ولا ضعف المعارضة أو عجزها ولا تدخل الدول الأجنبية. ولا يمكن للفئة الحاكمة ولا للمعارضة ولا للدول الكبرى أن تغير من سلوكها وتراجع نفسها ما دام أفراد المجتمع، كبيرهم وصغيرهم، لم يقرروا بعد الارتفاع إلى مستوى الحياة الأخلاقية والانخراط، كلاً حسب طاقته وإمكانياته، داخل الدوائر الرسمية وخارجها، في معركة التحرر من عقيدة الموت وطقوسه وتقاليده، أعني من إرث نظام موت المجتمع والسياسة والقانون والأخلاق معا.