تظهر التهديدات الأميركية الأخيرة لسوريا، التي جاءت على لسان العديد من المسؤولين الأميركيين، وخصوصاً تلك التي وردت على لسان السفير الأميركي في بغداد <<زلماي خليل زادة>>، سفير حروب المحافظين الجدد، الذي قال فيها <<إن صبر واشنطن قد نفذ>> و<<إن كل الخيارات مفتوحة بما فيها الخيار العسكري>>، أن الولايات المتحدة قد انتقلت الى مرحلة جديدة في علاقتها مع سوريا. كما تظهر كذلك أنها وصلت الى نقطة اللاعودة في هذه المرحلة.
وتعبّر لغة القوة والتصعيد، التي شارك فيه الرئيس الأميركي بوش، عن نقلة في السياسة الاميركية حيال النظام السوري، وتصل امتدادتها إلى سلسلة الضغوط الأميركية المتواصلة منذ احتلال العراق، واستمرار تركيز المصادر الأميركية الرسمية والإعلامية على مقولة <<تدفق الإرهابيين>> للقيام بعمليات ضد الوضع الجديد في العراق.
كما تعبّر التهديدات الأخيرة عن تغيير ما، غير مسبوق، في مستوى الضغط الأميركي على النظام السوري، خصوصاً أنها تزامنت مع زيارة رئيس لجنة التحقيق الدولية لدمشق ديتليف ميليس، واجتمع فيها مع الخبير القانوني رياض الداوودي، وبحث معه المكان والكيفية التي سيتمّ فيها الاستماع إلى عدد من المسؤولين الأمنيين السوريين كشهود. لكن هذه التهديدات رغم قوة حدّتها لن تخفي الوجه الآخر لها، ذلك المتعلق بالوضع الذي يواجهه الأميركيون في العراق، إذ باتوا يعانون وضعاً أكثر صعوبة مما قبل، وفي وقت تشتد فيه المعركة بين العراقيين على مسودة الدستور العراقي. وقد اعتادت الولايات المتحدة إلى الهروب نحو الأمام حين تشعر أنها مأزومة في حرب إقليمية ما، فتلجأ إلى إشعال المحيط المجاور، ظناً منها بأن اللهيب المنتشر قد يطفئ الجذوة. وهذا يتطلب منها التهديد باتخاذ إجراءات غير عادية ضد سوريا، بما في ذلك تفجير الوضع على الحدود السورية العراقية أو بالأحرى <<الأميركية>>، لذلك لم يخيّب بعض المسؤولين في الحكومة العراقية ظنّ القادة الأميركيين في هذا الجانب، فراحوا يطلقون بدورهم تصريحات نارية ضد سوريا، إلى درجة اعتبر فيها وزير الدفاع في الحكومة العراقية سوريا <<بوابة الشر>>. وهي عبارة تلقفها من أفواه بعض المسؤولين الأميركيين ورددها بلهجة يظنّ أن وقعها سيرضي قادته أو سادته من الأميركيين.
إذاً، ثمة مرحلة جديدة من التأزم في مسار العلاقات الأميركية السورية، وقد سبقتها مرحلة قررت فيها واشنطن تجميد أرصدة مسؤولين أمنيين سوريين، بتهم <<إثارة المشاكل>> في لبنان والعراق، واتسمت تلك المرحلة بالانتقال من مرحلة العقوبات الاقتصادية إلى مرحلة استهداف سياسي لأركان الحكم في سوريا. وجاء ذلك الانتقال في المواجهة مع سوريا بعد سلسلة المتغيرات الإقليمية التي حدثت منذ الغزو الأميركي البريطاني للعراق، ومنذ تقديم المطالب الشهيرة التي حملها وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول إلى دمشق، وكشف فيها عن عزم الولايات المتحدة، بعد انتشارها العسكري في المنطقة، على إنهاء أي دور إقليمي آخر.
وبالرغم من التهديدات الأخيرة، فإن القراءات تتعدّد حول المسار الذي يمكن أن تتخذه العلاقات السورية الأميركية باختلاف تأويل وتفسير ما تريده الولايات المتحدة من أدوار يمكن أن يلعبها النظام السوري في ظل التطورات المتسارعة الأخيرة، التي عصفت بالمنطقة العربية، فالبعض يرى أنها تريد إحكام العزلة والحصار حول النظام السوري تمهيداً لإسقاطه، والبعض الآخر يرى أنها ستقف عند حدود إجباره على إنجاز تغييرات نوعية في تركيبته وبنيته السياسية، بما يعني تفكيك الهيمنة الشمولية في علاقة السلطة مع المجتمع. ويقترب فريق ثالث من هذا التفسير حين يعتقد بأن الولايات المتحدة ستكتفي بما اعتادت عليه من ممارسة للابتزاز بغية إخضاعه للمطالب الأميركية، وحصر دوره الإقليمي بما يخدم مخططاتها ومصالحها، بمعنى أنها ستعود إلى صمتها المعروف حيال الوضع الداخلي في سوريا مقابل تنازلات يقدمها النظام تخدم تعزيز أهدافها في المنطقة. لكن مع ذلك فإن السؤال المطروح في هذا السياق هو، ما هو الجديد الذي تحمله السياسة الأميركية تجاه سوريا ونظام الحكم فيها؟
لقد انتقل النظام في سوريا إلى مرحلة جديدة بعد الانسحاب من لبنان تنفيذاً للقرار 1559، لكن ذلك لم يعنِ أن الأزمة قد انتهت، وأن النظام السوري يمكن أن ينجو من ضغوط جديدة. ذلك أن إكراه النظام السوري على الانسحاب من لبنان لم يكن بالنسبة إلى الولايات المتحدة سوى وسيلة لبلوغ غاية أخرى، وحسبما يقول <<فيلنت ليفريت>> في كتابه <<وراثة سوريا: دفع بشار إلى خط النار>>، فإن الهدف الحقيقي هو نزع الاستقرار في سوريا نفسها كخطوة لقلب نظام الحكم فيها. وهو يرى أن الإدارة الأميركية <<اعتمدت رأياً في تحليل السياسة السورية يقول بأن إكراه سوريا على الخروج من لبنان سيجعل النظام عاجزاً عن تحمل هذه الصدمة، وأن ذلك سيؤدي إلى زعزعته>>. أي أن المحافظين الجدد يعتقدون بأنه إذا مورس قدر كافٍ من الضغط على النظام السوري، فسوف يسقط من الداخل.
كلام ليفريت يمتلك شيئاً من الوجاهة، من جهة أن المحافظين الجدد يتلهفون إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق المصالح الأميركية الإسرائيلية، وتقع سوريا بالنسبة إليهم في قلب شبكة معادية لهم، تشمل المقاومة العراقية وإيران وحزب الله في لبنان إضافة إلى سورية نفسها. ويعتقدون بأنه لكي تتمزّق هذه الشبكة لا بدّ من قلب النظام السوري.