إن مسألة احتمال انضمام تركيا الى الاتحاد لم تعد تشغل حكومات الدول الأعضاء الحالية وحدها. بل أضحت كذلك تشغل الرأي العام الأوروبي، وتستحوذ على قدر كبير من الجدل الدائر في وسائل الاعلام الأوروبية. وهنا تختلف آراء الأوروبيين، حيث تنظر حكومتا فرنسا وألمانيا بإيجاب الى مسألة انضمام تركيا، وذلك بعكس مواقف الرأي العام في هذين البلدين، الذي يتوزع ما بين الرفض والسلبية والتردد وعدم الترحيب بذلك الانضمام. ويعود ذلك الى طغيان صور نمطية عن الأتراك والمسلمين.
غير أن انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي، يطرح في حقيقة الأمر إشكاليات ذات طبيعة خاصة، تتعلق بالوزن الديموغرافي لتركيا وحالتها الاقتصادية وموقعها الجغرافي المميز، فتركيا بالنسبة الى أوروبا تعتبر "دولة طرفية"، أي أنها دولة غير مركزية، وتقع جغرافياً خارج نطاق القارة، حيث تفصل حدودها أوروبا عن آسيا، وعليه فإنها لا تمتلك المزايا الجغرافية والتاريخية والثقافية والاجتماعية وكذلك الدينية لتكون من بلدان المنظومة العامة للاتحاد الأوروبي. لكن الأهم هو أن تركيا تضم أكثر من 70 مليون نسمة، ويجعلها هذا العدد في حال انضمامها الى الاتحاد الدولة الأكثر وزناً وتأثيراً مستقبلياً في المؤسسات التشريعية الأوروبية، التي تحد حصص الدول الأعضاء فيها بحسب تعداد سكانها. إضافة الى أن الاقتصاد التركي هو الأقل نمواً من بين اقتصاديات الدول الأعضاء. ويزيد موقع تركيا الجغرافي المعتمد حسب التصنيف الجغرافي التقليدي من سيولة خريطة أوروبا، نظراً لأن القسم الأعظم من أراضيها يقع خارج القارة الأوروبية، الأمر الذي يكسب مفهوم أوروبا ذاته مركباً جديداً، ويعطيه معنى جديداً كذلك، عبر تحويله الى ناد يتم الانضمام إليه وشروط سياسية محددة، وكل مَنْ يستوفها يمكنه أن يدخل النادي الأوروبي.
ويبدو أن الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان بإمكانها تحقيق العديد من الاصلاحات المطلوبة من تركيا، فقد أنجزت إصلاحات كبيرة في ظرف عامين تفوق ما أنجزته تركيا طوال أربعين عاماً مضت، وعلى سبيل المثال، أنجزت هذه الحكومة رزمة إصلاحات مذهلة في وقت قصير نسبياً منها: إلغاء عقوبة الاعدام، وتغيير أنظمة السجون، بما فيها حماية السجناء من التعذيب، وتعزيز حرية التعبير، والشفافية، وإرساء دعائم دولة القانون من خلال إلغاء محاكم أمن الدولة والمحاكم الاستثنائية، والاعتراف بأولية التشريعات الدولية على حساب القوانين الوطنية في مجالات حقوق الانسان، واعتمادها بمثابة المرجعية بالنسبة للمحاكم التركية. والأهم من ذلك هو تعزيز سلطة البرلمان، وقوانين المساواة، ومراقبة نفقات القوات المسلحة، وتقليص صلاحيات مجلس الأمن القومي، وانخفاض تأثير الجيش التركي في إدارة العلاقات الخارجية بخاصة مع اليونان عبر تقليص سلطته في هذا المجال، وعليه تمكنت الديبلوماسية التركية من القيام بدور إيجابي في حل أزمة جزيرة قبرص، ودخول الأخيرة عضوية الاتحاد الأوروبي.
وإن كان دخول تركيا منظومة الاتحاد الأوروبي سيجلب معه دون شك بعض المصاعب، إلا أن رفض انضمامها سيجلب تحديات استراتيجية عديدة، وخصوصاً إذا استند الرفض الى خلفية الموروث الثقافي والديني للشعب التركي، أي رفضها لمجرد أنها دولة مسلمة كبيرة، الأمر الذي يحمل رسالة معينة بالنسبة الى تركيا والى باقي دول العالم الاسلامي والعربي، ويعطي دليلاً الحساسية الأوروبية الخاصة تجاه الاسلام الأوروبي.
لقد عمل الأتراك على القيام بتحوّلات اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة بغية الوصول الى المعايير الأوروبية، وساعدهم في ذلك قيادة من المفكرين والمثقفين الذين يميلون نحو الغرب، إضافة الى مجتمع الأعمال التركي ومنظمات غير حكومية تكثف أنشطتها وسياسيين ملتزمين. بمعنى ما أخذ المجتمع المدني في تركيا مشروع الغربنة على عاتقه بعد أن كانت الدولة التركية قد أطلقته، وذلك مع نضوج رأي مدني عام.
وعانى الأتراك في تسعينيات القرن العشرين المنصرم من حرب أهلية وأزمات اقتصادية، ومن فساد استشرى في مؤسسات الدولة، ومن إفلاس الأحزاب السياسية وانهيار التوافق المجتمعي. ووصل الرأي العام التركي الى قناعة تطالب بتوسيع منطقة السلام التابعة للاتحاد الأوروبي كي تشمل تركيا أيضاً. وللمرة الأولى في التاريخ، اكتسب المشروع الأوروبي قاعدة شعبية راسخة، الأمر الذي قدم الدليل على نضج مشروع الأوربة في تركيا. والمفارقة في الأمر أن القوة المحرّكة السياسية وراء عمليات الاصلاح الجديدة بهدف تأهيل تركيا لمفاوضات الانضمام الى الاتحاد الأوروبي كان حزباً سياسياً ذا قاعدة اسلامية، وليس أي حزب آخر.
وقال المستشار الألماني غيرهارد شرودر في أكثر من مناسبة، سيكون رفض الاتحاد الأوروبي تركيا بعد أن تلبي المعايير المطلوبة بمثابة إهانة للعالم الاسلامي الأوسع وإشارة واضحة الى أن الاتحاد الأوروبي يطبّق سياسة المعايير المزدوجة، وهذا ليس في مصلحة الاتحاد. لا شك في أن العديد من المسلمين في العالم العربي وخارجه يعتبرون أن تركيا باعت روحها عندما أعلنت عن رغبتها في أن تصبح أوروبية. لكن مَنْ يعتبرون أن عضوية بلد مسلم في الأسرة الأوروبية أمر جيّد، أكثر عدداً بأشواط. أما بالنسبة الى مَنْ يؤمنون برسالة تركيا الأوروبية ويعتبرون أن نظاماً ديموقراطياً ليبرالياً هو الضمانة الأفضل لوحدة البلاد وازدهارها، فقد كانت هذه الرحلة مفيدة.