تتواصل ردود الفعل على الساحة الإسرائيلية بحلول الذكرى الثانية والثلاثين لحرب أكتوبر ، وهي الذكرى التي ستظل محفورة في ذاكرة الإسرائيليين مع كل هذه السنوات خاصة مع مرارة الهزيمة التي تعرضوا لها في هذه الحرب والإنجازات العديدة التي استطاع العرب القيام بها خلالها ، وهي الإنجازات التي لم تتوقف فقط عند حد القوة العسكرية وتدمير الجيش الإسرائيلي بل تعدتها لتصل إلى القدرة الاستخباراتية التي أذهلت إسرائيل واستطاعت هزيمة جهاز المخابرات بها أشر الهزائم • وفي هذا الإطار أصدر المعهد السياسي الإسرائيلي في القدس دراسة في الثالث من شهر أكتوبر الجاري بعنوان ’’ قصص استخباراتية ألمت تل أبيب’’ وهي الدراسة التي تعرض عدداً من القصص المتعلقة بقضايا التجسس بين تل أبيب والدول العربية ، والتي استطاعت الدول العربية من خلالها تحقيق العديد من الإنجازات على الرغم من الأساطير التي تحيكها إسرائيل حول قوتها الأمنية وقوة أجهزتها الاستخباراتية وتمتعها بالإمكانيات العديدة التي تجعلها أجهزة لا تقهر•
من أبرز القصص التي تعرضها الدراسة قصة المهندس الإسرائيلي صموئيل باروخ التي تعتبر واحدة من أخطر قضايا التجسس التي استطاع العرب بها تلقين الإسرائيليين درساً لن ينسوه ومازال يؤلمهم حتى الآن •
بداية ولد باروخ في القدس عام 1923 وكان والده صيدلياً من أصول مصرية غير أنه هاجر إلى القدس مع تزايد الهجرات اليهودية إلى فلسطين ، وفي عام 1939 سافر باروخ إلى انجلترا حيث درس هناك النسيج في مدرسة مدينة مانشستر والتي كانت تعلم الشباب دون السبعة عشر عاماً أصول صناعة النسيج وأحدث الوسائل في تطويره ، واستقر باروخ في انجلترا وفي عام 1949 أنهى دراسته وحصل على لقب مهندس وتزوج من إنجليزية عام 1950 وأقام مصنعاً محدوداً للنسيج في إنجلترا •
وفي عام 1958عاد إلى إسرائيل وانشأ مصنعاً في منطقة كريات جات الصناعية ، ومع نشاطه الاقتصادي كان عضواً في حركة إسرائيل الشابة وهي الحركة التي تم تشكيلها في أوائل الستينيات وكان هدفها دفع اليهود الشرقيين السفارديم في إسرائيل لتبوأ المناصب الهامة وعدم قصرها على اليهود من ذوي الأصول الغربية •
وتقلد باروخ العديد من المناصب الهامة للحركة ، وعين كرئيس جديد للجنة المالية الأمر الذي ساعده على الاشتراك في الكثير من المداولات الهامة التي كانت تجرى في كثير من الأماكن الاقتصادية بداية من اتحاد نقابات العمال ’’هستدروت’’ ووزارة المالية وغيرها من الهيئات الاقتصادية الهامة الأخرى •
وكان باروخ يشعر بالغضب من الحكومة الإسرائيلية والمؤسسات الاقتصادية التابعة لها وعلى رأسها الهستدروت بسبب السياسة المالية المجحفة التي كانت تنتهجها في تعاملها مع أصحاب المصانع والشركات الخاصة نتيجة للضرائب التي كانت تفرضها عليهم بدعوى دعم الجيش وغيره من المؤسسات العسكرية في الحروب التي تخوضها ضد الدول العربية الراغبة في القضاء على إسرائيل ، وهي الضرائب التي أدت إلى انهيار العديد من هذه المؤسسات والمصانع والتي كان مصنع باروخ من بينها وهو ما جعل الحياة سوداء في وجهه واضطر إلى الهجرة إلى جنيف وترك إسرائيل عام 1968.
وفي جنيف استقر لدى صهره إلا أنه شعر بأنه لا يقبل بوجوده في حياته خاصة مع عدم تمتع باروخ بأي دخل حيث ظل هناك عاطل عن العمل ويتسكع بين المقاهي والشوارع طيلة النهار ،الأمر الذي دفعه إلى البحث عن عمل ، وفي إحدى المرات كان يسير في أحد شوارع جنيف فشاهد لافتة تدعو السويسريين إلى حضور ندوة تنظمها السفارة المصرية وكانت بعنوان العداء الإسرائيلي للعرب •
وحضر باروخ هذه الندوة وشعر بالتعاطف بعدها مع المصريين خاصة وأنه كان يعيش في إسرائيل ويعلم السياسات العنصرية التي تنتهجها ضد العرب بصورة عامة والمصريين بصورة خاصة وهي السياسات التي زادت وبقوة مع الاحتلال الإسرائيلي للمناطق العربية بعد حرب 1967.
وذهب باروخ إلى القنصلية المصرية في جنيف ، وهناك تعرف على أحد الضباط المخابرات المصرية بها وتحدث معه واعترف له أنه إسرائيلي ويريد خدمة مصر خاصة وأنه يعلم أن إسرائيل دولة عنصرية ترغب في معاداة العرب بدون أي سبب بالإضافة إلى أن باروخ كان يحب مصر بشدة لكون أصوله تنحدر منها •
وبعد هذه الزيارة قررت مصر سفره لاستجوابه في القاهرة ، حيث خشي ضباط المخابرات المصرية من أن تكون هذه خدعة تقوم بها إسرائيل ضد مصر ، وفي القاهرة التقى باروخ مع عدد من الضباط في المخابرات المصرية الذين استجوبوه ووضعوه تحت جهاز كشف الكذب ورأوا فيه مشروعاً متميزاً للغاية للتجسس في قلب إسرائيل •
المصنع واليانصيب •• والمخابرات وأثناء الزيارة عرض عليه المصريون مساعدته في بناء مصنعه مرة أخرى وذلك بهدف التجسس الصناعي على إسرائيل ، حيث سيسهل له ونتيجة لإدارته لهذا المصنع من جديد الإطلاع على العديد من المعلومات الاقتصادية الهامة التي تفيد مصر بقوة • وأولت القاهرة اهتماماً كبيراً بهذه العملية وبلورت خطة محكمة تقوم على إعادة افتتاح باروخ لمصنعه مرة أخرى والتعاقد مع عدد من المهندسين من أوروبا الشرقية لتشغيل هذا المصنع مرة أخرى وأعطته القاهرة مبلغ 100 ألف فرنك من أجل ذلك•
ولم يكن هؤلاء المهندسون المشار إليهم إلا ضباط المخابرات المصرية وعدد من دول أوروبا الشرقية التي كانت ترتبط بعلاقات سلبية مع إسرائيل من أجل التجسس عليها•
وبالفعل عاد باروخ إلى إسرائيل وحاكت المخابرات المصرية قصة وهمية له بشأن الأموال التي حصل عليها ، حيث زعم وبناء على توجيهات القاهرة بأنه فاز بجائزة يانصيب قيمتها 100 ألف فرنك في إحد العروض التي تقوم بها واحدة من الشركات السويسرية ، وهي الشركة التي كانت تابعة في الأساس للمخابرات المصرية •
وعاد باروخ إلى إسرائيل وأقام مصنعه للنسيج مرة أخرى واستقدم العديد من المهندسين - كما تم الاتفاق - من أوروبا الشرقية لتشغيل المصنع ، وتجول هؤلاء المهندسون في إسرائيل وقاموا بالعديد من المهام في التجسس الصناعي على تل أبيب وكانت الفترة التي عملوا بها هناك من أهم الفترات الذهبية التي ساعدت مصر في بناء قاعدة معلوماتية قوية عن كافة فروع الاقتصاد الإسرائيلي ونجحوا في نقل المعلومات الهامة عن التجسس الصناعي ، وهي القاعدة التي ساعدت مصر على دراسة الوضع الاقتصادي لإسرائيل لفترات طويلة بعد هذه العملية •
غير أن هذه العملية وللأسف الشديد كشف عنها حيث شاهدت أحدى الإسرائيليات باروخ وهو عائد من القاهرة في إحدى زياراته إليها ، ودفعها ذلك لإخبار المخابرات الإسرائيلية التي سارعت إلى الإبلاغ مباشرة عنه وهو ما أوقع بباروخ في نهاية الأمر•
وفور القبض عليه علم المهندسون المصريون والأوروبيون بذلك وهو ما أدى إلى هروبهم من إسرائيل بواسطة خطط سرية أعدت من قبل لمواجهة هذه الحالات ،الأمر الذي أضفى نجاحاً آخر لهذه العملية حيث رغبت إسرائيل في القبض على أي مهندس من هؤلاء المهندسين خاصة وأنهم كانوا يرتبطون بعلاقات متميزة مع العديد من رجال الأعمال في إسرائيل ونجحوا في الكشف عن كثير من الصفقات التجارية بل والعسكرية التي قامت تل أبيب بإبرامها مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة •
حتى أن رئيس جهاز المخابرات الأسبق عاموس منور اعترف في حوار له مع إحدى الصحف الإسرائيلية أن هروب المهندسين المصريين والأوروبيين من أعضاء الشبكة التي قام باروخ بإقامتها يعتبر بمثابة وصمة عار في جبين إسرائيل ،خاصة وأن هؤلاء المهندسين نجحوا في التعرف على العديد من الأسرار الاقتصادية الإسرائيلية ، وهي الأسرار التي ساعدت القاهرة على دراسة الوضع الاقتصادي الإسرائيلي جيداً قبل حربها مع إسرائيل بعد ذلك بعدة سنوات •
وحكمت المحكمة الإسرائيلية على باروخ بالسجن لمدة عشر سنوات وخرج بعدها وهاجر من إسرائيل ، وتزعم عدد من التقارير الصحفية الإسرائيلية أنه هاجر إلى مصر والأخرى تؤكد أنه في أوروبا إلا أنه لا يوجد أي شخص يعلم بالتحديد موقعه •
التفوق السوري
قصة أخرى تنقلها الدراسة وهي قصة أودي أديب التي تعتبر واحدة من أخطر القصص المخابراتية العربية التي ساهمت بدورها في نصر أكتوبر حيث ولد في علم 1946 وكان والده من ذوي الأفكار السياسية المستنيرة وخدم في الجيش وحارب عام 1967 على الجبهة السورية في سلاح المظلات ويعترف بأن هذه الحرب غيرت العديد من المبادئ السياسية التي كان يؤمن بها حيث وبعد أن أنهى خدمته في الجيش انضم إلى حركة يسارية هي متسبان وهي حركة اشتراكية جديدة وكانت تهاجم السياسة الإسرائيلية الهادفة إلى التوسع بالقوة العسكرية وإقامة دولة إسرائيل من النيل إلى الفرات ، وكان هناك العديد من الكتاب والمفكرين الإسرائيليين أعضاء في هذه الحركة ومثال ذلك يهودا بن اهارون الشاعر المعروف وعكيفا الدر أبرز الكتاب الإسرائيليين والذي يكتب الآن في صحيفة هاآرتس وغيرهم من الأدباء الآخرين ، وكانت هذه الحركة من أشد المعارضين لغزو سيناء والحرب على مصر•
وبالإضافة إلى ذلك عارض أعضاء جماعة متسبان الحركة الصهيونية وانتقدوا الميل الغربي للحكومة الإسرائيلية برئاسة دافيد بن جوريون وارتباطها بالقوى الإمبريالية والاستعمار الغربي للشرق الأوسط •
وكان التوسع الإسرائيلي الجغرافي بعد حرب 1967 والانفتاح على العرب في المناطق المحتلة سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة أو الجولان أو شبه جزيرة سيناء له أثر كبير في نفوس أعضاء الحركة وغيرهم من عشرات الإسرائيليين الذين عاشروا العرب في هذه المناطق وتعرفوا عن قرب على حالاتهم حيث اكتشف الإسرائيليون أنهم يتمتعون بالعديد من الصفات الإيجابية وهي الصفات التي كانت تخالف ما تروج له الحكومات ووسائل الإعلام الإسرائيلية بأن العرب لا يفهمون إلا لغة العنف والقتل •
وقرر أديب وعدد من الإسرائيليين من أعضاء حركة متسبان تشكيل جبهة لدعم العرب والتواصل معهم وهي الجبة التي ترأسها أحد المواطنين العرب في إسرائيل وهو داود تركي وتعرف تركي على أديب الذي طلب منه ضرورة التباحث مع العرب خاصة الفلسطينيين والسوريين وتم الاتفاق على أن يلتقي أديب مع عدد منهم في اليونان التي كان يكثر فيها تواجد الفلسطينيين •
وبالفعل سافر أديب إلى اليونان وهناك التقى مع أحد الفلسطينيين ويدعى أبو كامل الذي تحدث معه عن كل شيء يتعلق بإسرائيل وخدمته في الجيش وردود الفعل المسيطرة على الإسرائيليين بعد الانتصار الذي حققوه في حرب 1967 •
واعترف ’’أديب’’ لأبو كامل عن عدم رضاه عن سياسة بلاده ، وهي السياسة التي أدت إلى زيادة كراهية العرب لإسرائيل خاصة مع احتلال العديد من المناطق العربية وتوسيع إسرائيل لحدودها على حساب العرب•
وأعجب أبو كامل بأديب واقترح عليه أن يسافر لسوريا للالتقاء هناك بعدد من المسؤولين السوريين ممن يريدون التعرف عليه•
شارون وبالفعل حاكت المخابرات السورية خطة لسفر أديب إلى دمشق حيث تم إعطاؤه جواز سفر سوري باسم عربي، وسافر إلى سوريا وهناك اجتمع مع عدد من المسؤولين بها والذين سألوه عن أدق التفاصيل المتعلقة بإسرائيل وتاريخ خدمته في الجيش وعن التدريبات التي تقوم بها وحدات المظليين التي خدم بها وأدق الأسلحة التي كانوا يحصلون عليها ومصدرها الحقيقي والدول التي تدعم إسرائيل في الخفاء وتضمر لها الكراهية في العلن وجنسية الخبراء الذين استقدمتهم إسرائيل من أجل تدريب جنودها بجانب أبرز الضباط والمسؤولين العسكريين في الجيش •
وهنا كانت النقطة المؤثرة المتعلقة بأديب حيث كان قد سبق له الخدمة مع الجنرال إرئيل شارون الذي كان قائد فرقة المظليين لفترة طويلة وأدلى بمعلومات مفصلة عنه وعن مزاجه الشخصي وعاداته بل والطعام الذي يفضله •
وتعترف الدراسة بأن هذه المعلومات التي أدلى بها أديب للسوريين مكنتهم من معرفة العديد من المعلومات عن شارون الذي كان السوريون يهتمون به بشدة خاصة مع إحساسهم بأنه سيكون مسؤولاً هاماً في إسرائيل بالمستقبل •
وبعدها عاد أديب إلى إسرائيل بعد أن أعطاه السوريون مبلغ ألف دولار لمساعدته في تجنيد الوجوه الجديدة من الشباب الإسرائيلي للخدمة معه في شبكة التجسس التي سيشكلها •
ونجح أديب في عمله واستطاع تكوين شبكة قوية تواصلت مع السوريين وساهمت في تعرفهم على العديد من المعلومات الهامة المتعلقة بالجيش الإسرائيلي وساعدتهم في حرب أكتوبر المجيدة بقوة ، حيث كانت الأخبار التي يرسلها أديب - والتي كانت تتم بالحبر السري - تصنف في مصاف المعلومات من الفئة الأولى حيث ترسم وتخطط الاستراتيجيات العسكرية السورية فيما يتعلق بالمواجهة مع إسرائيل على أساسها•
غير أن أديب وقع للأسف الشديد في النهاية في قبضة المخابرات الإسرائيلية نتيجة لمعرفته بإحدى الشابات وتدعى ’’ أنيتا ماشنر’’ والتي كانت مسؤولة ثقافية في سفارة إحدى دول أميركا اللاتينية ، وشكت في إحدى تصرفات أديب فقامت بإبلاغ الشرطة عنه الأمر الذي أدى لإلقاء القبض عليه في النهاية •
وعلى الرغم من ذلك استطاع أديب تحقيق خدمات هامة للعرب وساهم بالمعلومات التي كان يرسلها هو أو أفراد شبكته في تحقيق نصر أكتوبر الذي مازال يؤلم إسرائيل •
وما قصة أديب إلا دليل على التفوق السوري ، وهو التفوق الذي يضاف إلى التفوق المصري والعربي الذي ساهم في رسم البسمة على شفاة العرب في تلك الحرب •
وبالتالي يعكس هذان النموذجان اللذان عرضتهما الدراسة التفوق الاستخباراتي العربي على إسرائيل ، وهو التفوق الذي ساهم وبفاعلية في تحقيق العرب لانتصارهم المجيد الذي مازال يؤلم إسرائيل رغم مرور 32 عاماً على مروره •