في المنطق، التراكم يعني الامتلاء : زيادة الشيء من جنسه. في الواقع، هناك تراكم إيجابي يذهب نحو الامتلاء، وآخر سلبي، يفرغ ما كان قد امتلأ في حقبة سابقة أو في ميدان معين.
لو أخذنا أمثلة من الواقع العربي المعاصر، لوجدنا أن التراكم السياسي العربي مال في الأعوام الأربعين الماضية إلى إفراغ حياتنا من عناصر قوتها، وأخذنا إلى الضعف، وحول دورنا إلى دور ثانوي وهامشي في عالم ذهب نحو الامتلاء، حققت جهات كثيرة فيه تراكما إيجابيا جعل منها قوى كبرى أو عظمى، كالصين والهند. ولو قارنا تطورنا مع تطور العالم، لوجدنا أنه شهد قفزات نوعية في أكثر من مجال خلال العقود القليلة الماضية، وأن النزاهة تجبرنا على الإقرار بعجزنا عن مواكبة عصرنا أو اللحاق به، مع أن قدراتنا المادية والبشرية ليست أقل أو أدنى من قدرات غيرنا، وعناصر القوة الطبيعية متوفرة لدينا أكثر مما هي متوفرة لدى بلد معجزة كاليابان، مثلا، فلا عجب أن موقعنا في العالم تراجع، ودورنا فيه تقلص، وأننا صرنا موضوعا للآخرين، بعد أن كنا نبدو وكأننا نريد صنع مصيرنا بأنفسنا، ونحقق قفزة حقيقية في عالم التقدم.
إلى ما سبق، ينطبق واقع التراكم السلبي على ما نحن فيه من اندماج قومي أو وطني، وما آل إليه حالنا الرسمي والشعبي، الذي اتسم أكثر فأكثر بصفات ثلاثة هي: العداء بين دولنا، والعداء بين حكوماتنا وشعوبها، العداء بين مكونات مجتمعاتنا، التي اخترقتها الطائفية والطبقية والفئوية والشللية والعصبوية... الخ.
والمصيبة أن علاقاتنا كمواطنين عرب تحمل اليوم الكثير من سمات العلاقات الرسمية العربية، فهي، مثلها، من سيىء إلى أسوأ. يكفي أن يراقب المرء القادمين أو المغادرين في أي مطار عربي، ليرى إلى أي درك انحدرنا، فالأجنبي يدخل ويخرج معززا مكرما، دون رقابة أو تفتيش، بينما يتعرض العربي لمضايقات لها أول وليس لها آخر، مع أنه في “بلده الثاني” كما يقول لسان رسمي/ إعلامي كاذب صار جزءا من التراكم السلبي عندنا.
ولو أخذنا الاقتصاد، لوجدنا تراكمه سلبيا بدوره، لأن حجم إنتاجنا من الإنتاج العالمي يتراجع بدل أن يزداد، وحجم تجارتنا من التجارة الدولية يتناقص بدل أن يتعاظم، وقدرتنا على تحديد ورسم سياساتنا الاقتصادية تتلاشى بدل أن تتعزز، وتحكّمنا بما لدينا من ثروات طبيعية وفوائض مالية يتبدد، حتى أن اقتصاد العرب مجتمعين ليس شيئا يستحق الذكر بالمقارنة مع اقتصاد بلدان متوسطة التطور كإسبانيا أو إيطاليا، رغم ما لدينا من طاقات طبيعية وبشرية لا تقبل المقارنة بما لديهما . هل نتوقف عند تراجع مستوى مشاركة المواطن العربي في الثروات الاقتصادية وعائداتها، وتدني مستوى معيشته، وتدهور ما يقدم له من خدمات، حيث يجري تطور معكوس يذهب من المقبول نسبيا إلى غير المقبول كليا، ومن القوة إلى الضعف، ومن الثروة إلى الفقر؟
لا يظهر تراكمنا السلبي على حقيقته قدر ما يظهر في الصراع مع “إسرائيل”. هل نقارن عام 1948 باليوم؟ لقد حارب العرب عام 1948 وقاتلوا بطريقة مقبولة في حالات معينة، رغم ضعف جيوشهم وحداثة دولهم وافتقارهم إلى السلاح وإلى غطاء دولي. أما اليوم، فإن دولا عربية متوسطة وكبيرة عاجزة ليس فقط عن مقاتلة “إسرائيل” بل أرتيريا، التي احتلت في مطالع التسعينات جزرا يمنية، ولولا محكمة العدل الدولية لكانت الجزر محتلة إلى اليوم. بعد أعوام من ذلك، احتلت ليبيا أجزاء من تشاد، فأنزلت قوات هذا البلد الصحراوي المعدم، القليلة السلاح والعدد، هزيمة ماحقة بجيش ليبيا، سببت الصور التي نشرتها الصحافة العالمية عن مصيره المخجل العار في نفس كل عربي. ليس هناك اليوم جيش عربي واحد يفكر ولو مجرد تفكير بمنازلة “إسرائيل” أو بتحدي قوتها، بينما قاتلتها جيوش وليدة طيلة قرابة عام ونيف سنة ،1948 رغم قلة أسلحتها وانعدام خبرتها الحربية، وتقصير النظم العربية الحاكمة. يقول خبراء الاستراتيجية: إن أعظم معركة هي تلك التي تكسبها من دون أن تضطر إلى خوضها. ألا تكسب “إسرائيل” اليوم معاركها ضدنا من دون أن نجبرها على خوضها؟ أليس أعظم كسب عسكري لها أن لا يتجرأ “عدوها” العربي على التفكير بتحديها ومقاتلتها، وأن يفقد ثقته بنفسه إلى الحد الذي يردعه حتى عن إلقاء نظرة غاضبة عليها، ناهيك عن إعداد نفسه لمعركة أو لحرب ضدها تستثنى فلسطين البطلة من هذا الكلام.
دخل الوطن العربي في تراكم سلبي أفرغ قدراته، كما أفرغ نفوس بناته وأبنائه من الثقة بالوضع العربي القائم. ومع أن المجتمعات العربية كانت تحقق تراكما بطيئا وإيجابيا في الفترة الماضية، نمى طاقاتها البشرية الهائلة، التي تعلمت واكتسبت خبرات وازنة، فإن حاضنتها السياسية الرسمية فرضت عليها قدرا من الجمود أفرغ حياتها من أي دور فاعل ومستقل، وشحن علاقاتها معه بعناصر خطيرة، حالت إلى اللحظة دون تحقيق تراكم قطري أو قومي، امتلائي ونوعي وشامل، يشبه ما حققته اليابان بدءا من أواسط القرن التاسع عشر، حيث قرر البشر، رأس مال تلك البلاد الوحيد،الخروج من بؤسهم عبر تفاهم تاريخي بين نخبهم الحاكمة والمالكة والمثقفة، أخذهم إلى حال من التقدم صار مضرب المثل في العالم الحديث.
يقف وطننا العربي اليوم أمام حتمية الانخراط في مرحلة كهذه، توفر له تفاهما تاريخيا بين نخبه ومجتمعه يقلب بمعونته تراكمه السلبي إلى تراكم إيجابي، ويتخلص من المعوقات التي تكبح تقدمه، وأهمها الافتقار إلى توافق كهذا يقدر وحده أن يوحد إرادتها واتجاهها، ويجعل علاقاتها تكاملية وعملها إيجابياً وامتلائي التراكم.
تمس حاجتنا إلى توافق تاريخي جديد، لأن عالمنا يدخل إلى عصر جديد، أشد قسوة من أي عصر سبق لنا أن عرفناه، فإما أن نخرج من مأزقنا القاتل خلال زمن قصير نسبيا، أو أن نهلك بفعل التراكم السلبي والعجز والضعف وتفاقم التأخر والهامشية وهوة التطور المتزايدة الاتساع، التي تفصلنا عن عالم يتقدم بسرعة عاصفة، تتربص قواه بنا وتوشك أن تنشب مخالبها في جسدنا المتهالك والضعيف.
ماذا نختار؟ بل أي خيار يبقى لنا في حالنا هذه غير الخروج من حلقة التراكم السلبي، والدخول عبر تراكم إيجابي، سريع وشامل، إلى عصر نرى بأم أعيننا أنه يقتل العاجزين ويجزي القادرين، لا يترك لنا بديلا غير أن نكون بين القادرين، لانه لا مكان فيه للهالكين.