قبل خمسة ايام من الموعد المقرر لصدوره في 21 تشرين الاول الجاري، يتحرك الاستنفار الداخلي لمواجهة النتائج التي سيسفر عنها التقرير النهائي للجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري على وقع الاستنفار الديبلوماسي الخارجي عبر الدينامية الاميركية الاخيرة في اتجاه عواصم ثلاث معنية بأي دور محتمل لمجلس الامن في ضوء هذا التقرير، وهي باريس وموسكو ولندن.
وكما ان روما من فوق هي غيرها من تحت، فان حبس الانفاس حمل اكثر من طرف لبناني اتخذ مواقف مسبقة من تقرير القاضي ديتليف ميليس وتكهن في ما قد يسفر عنه، على التزام موقف المتحفظ والمترقب، وقد اضحى الجميع امام ساعة الحقيقة حيال السؤال الآتي: هل تورطت سوريا في اغتيال الرئيس السابق للحكومة اللبنانية؟
وان احدا، سواء في فريق اركان السلطة او في فريق القوى المناوئة لها والحليفة لدمشق، لم يعد في وسعه في الايام الفاصلة التعامل مع التقرير النهائي على انه ترف سياسي يحاول توظيفه في نزاعات لبنانية صغيرة وضيقة. في ابسط الاحوال ثمة خلاصة راعبة سيلقي بها تقرير ميليس في وجه اللبنانيين جميعا: اتهامه سوريا بالضلوع في اغتيال الحريري يفتح هذه المرة ابواب جهنم عليها هي من الخارج الى الداخل، وعدم اتهامه اياها يفتح ربما ابواب جهنم على اللبنانيين انفسهم بعضهم على بعض ويدفع بالوضع الداخلي الى مزيد من الانقسام.
وهو سبب الصمت والانتظار اللذين يطبقان على معظم المسؤولين والقوى السياسية. وخلافا لكل ما قيل في العقود الثلاثة المنصرمة على الاقل، فان لبنان هو الذي يهدد اليوم سيادة سوريا في ضوء التطورات التي نشأت من اغتيال الحريري. ولذلك فان ما يوازي اهمية اكتشاف قتلة الرئيس الراحل هو معرفة اي مصير ينتظر العلاقات اللبنانية – السورية في المرحلة التالية لاكتشاف الحقيقة اولا، واي سوريا في مرحلة ما بعد التقرير ثانيا؟
ومع ان تقرير القاضي الالماني غير معني بتوجيه اتهام مباشر باغتيال الحريري الى الجهة الفاعلة، فان التكهنات بما قد يصدر عنه، وفي ضوء التحركات الديبلوماسية الدولية الاخيرة، ربطت مصير سوريا ومستقبل نظامها بما سيورده عنها التقرير. وهو امر جزم سلفا بان التقرير سيؤدي الى تغيير ما في سوريا من غير ان يؤدي ذلك بالضرورة الى تعريض نظام الرئيس بشار الاسد لأي خطر كبير. واكثر من اي وقت مضى اضحى اي حدث داخلي في سوريا يجتذب الاهتمام الدولي الذي سرعان ما يحاصره بالمعلومات والتكهنات والشائعات من جهة، ويحمل المجتمع الدولي على التدخل مباشرة في هذا الحدث على نحو لم يألفه النظام السوري من قبل. وتاليا لم تعد سوريا الدولة ذات الاسوار العالية والتي تعرف كل ما يدور من حولها وتؤثر فيه، من غير ان يسبر احد اسرارها.
ولعل المسألة الاكثر تعبيرا عن هذا التحول في الايام الاخيرة هي انتحار وزير الداخلية السوري اللواء غازي كنعان في 12 تشرين الاول:
- فالرجل بانتحاره قدم الى القيادة السورية مفاجأة مربكة في توقيتها السياسي ضاعفت من الشكوك الدولية فيها بمعزل عن الدوافع الشخصية والسياسية التي حملته على اتخاذ قراره بالخروج فجأة من الحياة السياسية السورية. ومع ان كنعان حرص في التصريح الذي ادلى به قبل وقت قصير من انتحاره على تأكيد ولائه للرئيس السوري، فان انتحاره اثار علامة استفهام حيال موقعه داخل النظام كأحد خمسة يمسكون في ظل الاسد باستقرار النظام والحزب والجيش.
- والرجل من حيث لا يدري فتح باب التكهن بان انتحاره كان اغتيالا تبريرا لطلب قد يأتي على ذكره التقرير النهائي للجنة التحقيق الدولية وهو تشريح جثة كنعان للتأكد من سبب الوفاة، اشارة الى انهيار كامل لثقة المجتمع الدولي بسوريا وتعامله معها على انها غير متعاونة في تحقيق الاستقرار بينها وبين جيرانها في المنطقة.
وتاليا بات الاهتمام بالانتحار الغامض لوزير الداخلية السوري يتجاوز دوره في قضية الحريري – ولم يكن معنيا بها مباشرة – الى مسألة باتت تتعلق بالداخل السوري. فالحاكم الفعلي للبنان لاكثر من 20 عاما وصاحب اليد الطولى في قمع عصيان الاكراد في القامشلي عام 2003 ظل الوحيد دون سائر رفاقه من "الحرس القديم" يحتفظ بموقع مقرر في السلطة وموثوقاً به.
- والرجل ادخل الى التحقيق في اغتيال الرئيس السابق للحكومة اللبنانية عاملا اضافيا غير محسوب هو ربط التطورات الداخلية السورية باغتيال الحريري. اذ بات على لجنة التحقيق الدولية وحدها ان تحسم السجال الجديد مع سوريا: هل كان انتحار كنعان لاسباب سورية ام لبنانية؟
ربما بسبب عوامل كهذه وسواها تبدو دمشق معنية بتقرير لجنة التحقيق الدولية ايا يكن ما سيقوله فيها في اغتيال الحريري. وفي واقع الامر فان ما سيقوله عنها في هذا الامر لا يتعدى كونه اول الغيث.