تكمن المسألة الاكثر غموضاً في الاشتباك بين مجلس الامن وسوريا في السؤال الآتي: هل يقتصر تحفظ دمشق عن المكان الذي يُنتظر أن يُستجوب فيه المسؤولون الامنيون السوريون الستة ام يتعداه الى جانب آخر هو الاكثر وطأة على النظام، اي توقيف هؤلاء للاشتباه في ضلوعهم باغتيال الرئيس السابق للحكومة اللبنانية رفيق الحريري؟
حتى الآن تكتفي المناورة السياسية السورية مع مجلس الامن، من خلال الحوار الدائر في برشلونة بين رئيس لجنة التحقيق الدولية ديلتيف ميليس والمستشار القانوني في وزارة الخارجية السورية رياض الداودي، باثارة الخلاف حول المكان، وهو مقر لجنة التحقيق الدولية في المونتيفردي، انطلاقاً من اعتقاد دمشق ان استجواب المسؤولين الامنيين السوريين فيه يرمي الى اهانتهم واذلال دولتهم.
الا ان الجانب الآخر من المشكلة لا يزال خارج السجال القائم بين الطرفين، ولم تقل دمشق بعد هل انها موافقة عليه، او على الاقل مرنة حياله، وهو استعدادها للرضوخ لقرار ميليس توقيف المسؤولين الامنيين الستة في المكان الذي يفترض ان يستجوبهم فيه خارج سوريا.
وهو لن يكتفي اذذاك باستجوابهم، وانما سيقطع صلة اتصالهم بقيادتهم، ويضع حداً للطريقة التي كان قد استجوب بعضهم بها في دمشق في 20 ايلول الفائت.
والواقع ان التسليم سلفاً بما سيقرره ميليس في مراحل الاستجواب، بعد تجاوز عقدة المكان، يشكل التنازل الاكثر احراجاً للنظام السوري نظراً الى آثاره التي تتعدى الرجال الستة الى مسّ النظام نفسه في الصميم وتعريضه ربما للتصدع. وهو تنازل لا يرتبط بارادة الرئيس السوري فحسب، وانما كذلك بقدرته على استجابته في هذا الظرف وفي حمأة الضغوط الدولية عليه، وهو على رأس نظام معقد للاستخبارات العسكرية ولها دور بالغ الاهمية في الاستقرار الداخلي وادارة اللعبة السياسية.
بازاء خطورة هذا الامر تبرز الملاحظات الآتية:
1 - ان القاضي الالماني قد يطلب بعد استجوابه الضباط السوريين الستة من سلطات الدولة التي سيُخضعون للتحقيق على اراضيها توقيفهم. فهم مشتبه فيهم سلفاً في ضوء مضمون تقريره النهائي الذي رفعه الى الامين العام للامم المتحدة كوفي انان في تشرين الاول الفائت، واورد فيه اسماءهم على انهم مشتبه فيهم في اغتيال الحريري من خلال ادوار اضطلعوا بها بعد سلسلة اجتماعات عقدوها مع مسؤولين امنيين لبنانيين بالاستناد الى شهود سوريين بعضهم لا يزال مجهولاً.
وعلى غرار ما اقدم عليه في لبنان قبل وضع تقريره النهائي، فان ميليس يبدو في حاجة الى اثبات تفويض المجتمع الدولي له بتوقيف الضباط السوريين الستة ودفع التحقيق الدولي في وجهة قد لا تروق النظام السوري، بل تشكل صدمة له.
2 - ان استجواب الضباط السوريين الستة في المونتيفردي كان سيؤدي حكماً الى اتخاذ القضاء اللبناني قراراً بتوقيفهم فوراً. وهو ما لمسه بعض من اتصل بالمدعي العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا في الايام الاخيرة اذ سأله هل سيأمر بتوقيف الضباط السوريين اذا طلب منه رئيس لجنة التحقيق الدولية ذلك، فرد بالايجاب. ناهيك بأن البروتوكول الموقّع بين لبنان والامم المتحدة في حزيران الفائت يجيز تصرفاً قضائياً كهذا، الا انه يؤدي في واقع الامر الى ما هو ادهى في العلاقات اللبنانية - السورية، وإن تحت مظلة الامم المتحدة، بل سيكون اشبه باعلان حرب بين البلدين.
ويصح ذلك اكثر ما يصح اذا كان احد الموقوفين الرجل الثالث في النظام السوري، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية اللواء آصف شوكت صهر الرئيس السوري.
3 - هل ان تجاوز عقدة المكان يسهّل بدوره العقدة غير المعلنة، وهي استعداد الرئيس بشار الاسد للقبول بتوقيف الضباط ستة، بمن فيهم صهره؟
تبدو المشكلة هنا اكثر تعقيداً لسبب جوهري هو ان الاسد سبق له في اكثر من مناسبة، كان آخرها خطابه المتشدد على مدرج جامعة دمشق، ان اكد انه واثق كل الثقة من ان احداً من المسؤولين السوريين الامنيين ليس ضالعاً في اغتيال الرئيس السابق للحكومة اللبنانية. وقد يكون من السذاجة الاعتقاد ان الرئيس السوري، الذي استنفر شعبه وحضه باكراً على الاستعداد لمواجهة قاسية مع المجتمع الدولي في هذه المسألة، يمكن ان يقبل بأن يتراجع عما أعلنه، اي ان يسلّم بأن الضباط الستة او بعضهم او ربما واحداً منهم، اياً يكن، متورطون في اغتيال الحريري، اللهم ما لم يُفرض ذلك عليه من المجتمع الدولي.
ولعل المقصود بذلك ان الرئيس السوري وضع سقفاً للاستجواب الذي يمكن ان يوافق عليه في اي مكان في العالم سوى لبنان، وهو الا يؤدي الى توقيف الضباط فوراً بتهمة الاشتباه في مشاركتهم في اغتيال الحريري ما دام هو على الاقل، وهو المعني الاول بتسليمهم، متيقناً كل اليقين من انهم ابرياء. لكن ذلك يعني اولاً ان الاسد قد يريد ضماناً بعدم توقيفهم في اي مكان في العالم ما لم تكن ثمة ادلة دامغة، لا تسييس فيها، على ضلوعهم في الجريمة.
ويعني ثانياً، في بساطة، ان الاسد يحدد لميليس آلية التعامل مع الضباط الستة. وهو ما لم يُقدم عليه القاضي الالماني عندما قرر في 30 آب الفائت توقيف الضباط اللبنانيين الاربعة الكبار وزجهم في السجن بتهمة المشاركة في التخطيط لاغتيال الحريري من دون تحديد ادلة قاطعة في الامر، وعندما عزا توقيفهم في تقريره النهائي في ما بعد الى ان احداً في لبنان "ليس فوق القانون"، وهي اشارة واضحة الى ان توقيف الضباط اللبنانيين لم يعوّل على نتائج التحقيق معهم، ولا على ادلة جرمية، بمقدار ما رمى الى احداث صدمة في الوضع اللبناني الداخلي وفي مسار التحقيق، اذ قال ان اعتقالهم، وان يكونوا لا يزالون يتمتعون بقرينة البراءة، كان من اجل ألا يكون احد فوق القانون.
وبالتأكيد لن يوافق الرئيس السوري على حجة كهذه، ويريد سلفاً الضمان الذي يحول دون ان يضعه القاضي الالماني امام الامر الواقع بتوقيفه الضباط الستة، وبين هؤلاء اثنان هما بمثابة بئر اسرار السياسة السورية واستخباراتها وخططها وقراراتها في لبنان، والتي من شأنها ان تقود ربما الى ما هو ابعد من ذلك بكثير في هذا البلد وخارجه: آصف شوكت، ورئيس جهاز الامن والاستطلاع في الجيش السوري في لبنان العميد رستم غزالي الذي كان الاسد يقول عنه منذ مرحلة ما بعد التمديد للرئيس اميل لحود في ايلول 2004 انه ممثله الشخصي في لبنان. ومغزى ذلك ان كل ما كان يعرفه غزالي او يفعله في لبنان لم يكن من صنعه وحده.