وضع التقرير النهائي للجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري حداً للشكوك التي احاطت بدور سوريا في الاغتيال، اذ عدها صاحبة القرار المباشر فيه. ومع ان التقرير بدا اقرب الى قرار ظني في ايراده وقائع اتصلت بالاغتيال وان تكن غير نهائية الى ان تؤكدها المحاكمة، فانه ادى في واقع الحال الى ظن سياسي في موازاة الظن القضائي الذي انطوت عليه صفحاته.

منذ بداية عملها في حزيران الفائت، قاربت لجنة التحقيق الدولية اغتيال الحريري على انه جريمة ذات دوافع سياسية ستفضي حتماً الى نتائج سياسية. ولذا شددت على فاعلية هذه الدوافع جاعلة منها العمود الفقري للتحقيقات انطلاقاً من واقع العلاقة المتردية التي سادت في الاشهر السابقة على الاغتيال بين الحريري والقيادة السورية. وقد تكشف جانب بالغ الاهمية في هذه العلاقة من افادات الشهود المعلنين والسريين الى مضمون المكالمات الهاتفية، وقد حصلت لجنة التحقيق الدولية على كمّ من تسجيلات صوتية لاتصالات بين مسؤولين سوريين وآخرين لبنانيين كما على محاضر بمضمون هذه المكالمات.

والواضح ان اللجنة ربطت بين الدوافع السياسية والقدرات التي مكنت الاستخبارات العسكرية السورية في لبنان من التأثير على السلطة السياسية اللبنانية والتحرك بحرية على الارض في مواجهة الحريري والسعي الى الغاء دوره.

على ان الظن القضائي ادى بدوره الى نتائج سياسية تتخطى تداعياتها اكتشاف الجهات الضالعة في اغتيال الرئيس السابق للحكومة الى اعادة بناء الخريطة السياسية اللبنانية والسورية:

- وضع سوريا اكثر من اي وقت مضى في مواجهة مجلس الامن الذي شكّل المرجعية السياسية للجنة التحقيق الدولية المستقلة. وتالياً في ضوء ما اورده التقرير لم تعد سوريا دولة "داعمة للارهاب" فحسب كما يصفها الاميركيون، وانما دولة يشتبه في ارتكابها جريمة سياسية هي اغتيال رئيس سابق لحكومة دولة مجاورة ينتشر الجيش السوري واستخباراته العسكرية على اراضيها.

وبمقدار ما يفتح التقرير باباً عريضاً على مواجهة مع مجلس الامن ينتظر ان تعكس ملامحه الجلسة التي سيعقدها الثلثاء المقبل لمناقشة التقرير، فانه يدفع بسوريا ايضاً الى مواجهة ارباك من نوع اخر مع مصر والسعودية اللتين رفضتا عزل دمشق وتريثتا في الحكم على الدور السوري في الاغتيال الى ما بعد صدور تقرير القاضي ديتليف ميليس، ومارستا كذلك ضغوطاً على اركان في السلطة اللبنانية بحضهم على عدم استباق التقرير. والاحرى ان الاحراج يصبح مضاعفاً اذ يدحض تقرير ميليس ما كان ابلغه الرئيس السوري بشار الاسد الى الزعيمين المصري والسعودي من ان بلاده غير متورطة في اغتيال الرئيس السابق للحكومة اللبنانية. وقد حمل اليهما افادات الاستجوابات في دمشق دفاعاً عن وجهة نظره.

- وضع الرئيس اميل لحود في موقف مربك للغاية بمعزل عن موقفه الشخصي من الاستمرار في الحكم حتى الدقيقة الاخيرة من الولاية. فالرجل حليف رئيسي لدولة هي اليوم مشتبه في ضلوعها في اغتيال الحريري، وهو استمد منها سلطة واقعية اتاحت له من خلال فريق عمله منح دورها في لبنان امتيازا جعلها قادرة على التحكم بادارة هذا البلد.

واياً تكن القرينة التي يتسلح بها رئيس الجمهورية لتأكيد تنصله من فريق عمله المشتبه بضلوعه في الاغتيال، فهو جزء من خيار سياسي واستراتيجي اسقطه اغتيال الرئيس السابق للحكومة ثلاث مرات: الاولى عندما انسحب الجيش السوري من لبنان، والثانية عندما اوقف فريق عمله المتمثل بقادة الاجهزة الامنية للاشتباه بهم في التخطيط للاغتيال، والثالثة عندما اضحت دمشق بدورها مشتبهاً بها على مستوى القيادة السورية. وان التبريرات التي قدمها القاضي الالماني لحذف اسماء مسؤولين سوريين كبار من التقرير الذي سلمه الى الامين العام للامم المتحدة كوفي انان ووُزّعت نسخ منه على وسائل الاعلام لا تسقط حقيقة ان هؤلاء اضحوا مشتبها بهم في السر وفي العلن، ولا يعدو حذف اسمائهم كونه اجراء شكلياً.

والمهم في الامر ان المسؤولين الامنيين السوريين الاربعة هم في فريق العمل الضيق، المقرر خصوصاً امنياً وسياسياً، المحيط بالرئيس السوري. وثلاثة منهم على الاقل جمعهم بالرئيس السابق للحكومة عداء سياسي وشخصي لم يكتموه ودفعهم تكراراً الى انتقاده بقسوة والحض على التضييق عليه.

- وضع "حزب الله"، اعتى حلفاء سوريا، في موقف مربك ايضاً حيال حقائق عكسها التقرير النهائي: اولاها الاشتباه بالحليف الذي شكّل باستمرار دعما رئيسياً لمقاومة الحزب اسرائيل، وبعداًً امنياً مهماً ضمن حمايته واحتفاظه بسلاحه. وثانيتها ان ليس في وسعه ان يتخذ موقف الحياد من دمشق في ضوء ما نصّ عليه تقرير لجنة التحقيق الدولية اعتقاداً منه ان ضرب سوريا سيمهّد لضرب سلاحه هو في لبنان وتالياً تنفيذ ما تبقى من القرار 1559 بطريقة معكوسة ومن النافذة الشرقية، وثالثتها ان على الحزب ان يكون جزءاً من الاجماع الوطني اللبناني على تأييد تقرير القاضي الالماني الذي افضى الى ما نادى به اللبنانيون والحزب في طليعتهم، وهو كشف المسؤولين عن اغتيال الرئيس السابق للحكومة والانضمام الى الاجراءات التي من شأنها احقاق العدالة ومحاسبة سوريا على دورها هذا.

وخلافاً لسائر الافرقاء اللبنانيين الذين قاربوا ولا يزالون مهمة لجنة التحقيق الدولية على انها تبحث عن "الحقيقة"، ادرج "حزب الله" هذه المهمة في نطاق ابعد اذ ابدى تخوفه من تسييسها. والمقصود بذلك انهاء مقاومته وتجريده من سلاحه.

وبسبب ذلك يبدو من الصعب عليه ان يكون على الحياد من مسألة الاشتباه بسوريا.

مصادر
النهار (لبنان)