ما يحصل في العراق، حيث تدور بالفعل حرب أهلية كان ما رافق الاستفتاء على الدستور أحد التعبيرات الصارخة عنها، يفوق في أهميته كل الأحداث الأخرى في المنطقة... بما في ذلك الأزمة العميقة التي يعيشها النظام السوري في ضوء النتائج التي تترتب على اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. انها أزمة بدأت تتفاعل على نحو مكشوف منذ اتخاذ القرار المجنون بالتمديد للرئيس اميل لحود واستمرت مع محاولة اغتيال مروان حمادة، وبلغت ذروتها باغتيال رفيق الحريري وبسلسلة الجرائم الأخرى التي تلت هذا الزلزال. كان اضطرار أحد أركان النظام، اللواء غازي كنعان، الى "الانتحار" قبل أيام الدليل الأوضح على أن في أساس ما يتعرّض له لبنان أزمة النظام السوري الذي سعى منذ البداية الى ممارسة عملية هروب الى أمام بدل امتلاك الشجاعة الكافية للبحث عن حلول تصب في مصلحته وفي مصلحة لبنان في الوقت ذاته.
على الرغم من خطورة الوضع في سوريا، لا يمكن إلا إعطاء الوضع العراقي الأهمية التي يستحقها، أقله من زاوية أن عملية إعادة رسم خريطة المنطقة بدأت من العراق في ذلك اليوم الذي دخلت القوات الأميركية أرض البلد الى أن وصلت الى بغداد التي سقطت يوم التاسع من نيسان من العام 2003.
كلما مرّ يوم يتبيّن أن الحرب الأميركية على العراق كانت في مصلحة إيران. وإذا أظهر الاستفتاء على الدستور شيئاً، فقد أظهر أن البلد منقسم على نفسه وأن الخلاف السنّي ـ الشيعي في شأن الدستور تتمة للحرب الدائرة منذ أشهر عدة. وغالباً ما تتخذ هذه الحرب طابعاً إرهابياً عبر العمليات الانتحارية التي يلجأ إليها الموتورون من أهل السنّة أو عمليات الانتقام التي ينفذها أعضاء في الميليشيات التابعة للأحزاب الشيعية الكبيرة. إنها ميليشيات مخترقة إيرانياً من فوق الى تحت ومن تحت الى فوق، خصوصاً أنها دخلت الأراضي العراقية من إيران بعد نجاح الجيش الأميركي في إسقاط نظام صدام حسين.
أياً تكن نتيجة الاستفتاء على الدستور، سيكون هناك انتصار إيراني كبير في العراق، لا لشيء سوى لأنه ليس ما يشير الى الآن إلى أن هناك من هو قادر على تشكيل تجمع سياسي ذي قاعدة عريضة يضم الذين يرفضون سيطرة الأحزاب المذهبية على البلد. وإلى الآن، استطاعت إيران بما تملكه من نفوذ داخل العراق وعبر الأحزاب الشيعية الكبيرة التي تدين لها بكل شيء، منع قيام أحزاب أو تجمعات سياسية فاعلة تضم عرباً من الشيعة والسنّة، أي من الأكثرية الحقيقية في العراق وهي أكثرية عربية أولاً. وما يدل على مدى النفوذ الايراني في العراق ومدى سيطرة طهران على الحكومة الحالية برئاسة السيد ابراهيم الجعفري، الاتهامات بالفساد التي وجهت الى وزير الدفاع السابق السيد حازم الشعلان لمجرّد أنه شيعي عراقي عربي تجرأ على انتقاد التدخل الايراني في العراق وعلى تسمية الأشياء بأسمائها.
باتت إيران تؤمن في ضوء التطوّرات العراقية وفي ضوء السيطرة الفعلية التي تمارسها على جزء من البلد خصوصاً الجنوب الغني بالنفط، أنها تمتلك ورقة قوية في اللعبة الاقليمية وأن الولايات المتحدة ستجد نفسها مضطرة الى التفاوض معها في شأن تقاسم النفوذ في العراق. ولهذا السبب أولاً، ولأن طهران تدرك أن أميركا تبحث عن مخرج من المأزق العراقي، اتخذت خطوات تستهدف تسهيل الخروج الأميركي من العراق بغض النظر عمّا يحكى عن الملف النووي الايراني الذي يظل قضية مهمة لايران إلا أنه لا يمكن مقارنتها بالجائزة الكبرى التي اسمها العراق. ولعلّ أهم خطوة أقدمت عليها طهران أخيراً القرار الذي اتخذه "المرشد" علي خامنئي والقاضي بوضع رئيس الجمهورية تحت شبه وصاية يمارسها من خسر أمامه معركة الرئاسة أي هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام.
إن رفسنجاني معروف بأنه سياسي محنك لم يغلق يوماً قنوات الاتصال مع واشنطن. ويشكل اعطاؤه صلاحيات جديدة إشارة الى رغبة إيران في التفاوض مع الولايات المتحدة بدل الدخول في مواجهة معها. وتستطيع ايران التفاوض لأنها تمسك بورقة العراق، في حين أن النظام في سوريا الذي يؤكد عبر اعلامه المشهود له بدقته وصدقيته طبعاً، أنه يريد حواراً مفتوحاً مع الأميركيين وليس عقد صفقة معهم، فإنه ينسى أنه تخلى عن كل أوراقه في اليوم الذي قرر فيه الدخول في مواجهة مع رفيق الحريري، اللهم إلا إذا كان هذا النظام يعتقد أن تقرير ميليس ورقة في يده وليس ضده!، نجنا يا رب من الحسابات الخاطئة التي لم تجلب حتى الآن سوى الكوارث على سوريا ولبنان...