بدل التباكي على ما وصل إليه الوضع العربي، في استطاعة المسؤولين السوريين الذين يتحدثون هذه الأيام عن القيم العربية وعن أن سوريا مستهدفة بسبب تمسكها بـ"الثوابت" العربية، تقديم خدمة تصب في تحسين الوضع العربي من جهة ومواجهة ما يسمى الحملة التي تستهدف النظام السوري من جهة أخرى.
تتلخص هذه الخدمة في المساعدة في كشف الحقيقة، حقيقة اغتيال الشهيد رفيق الحريري العربي الأصيل الذي لم يتردد لحظة في الدفاع عن سوريا وعن كل القضايا العربية. والأكيد أن كشف الحقيقة لا يكون بالكلام ولا بزرع الألغام في لبنان وإنما بالتعاون مع التحقيق الدولي ممثلاً باللجنة التي يرئسها القاضي الألماني ديتليف ميليس، وهو قاض لا يختلف عاقلان على أنه محترف يؤدي مهمته خدمة للحقيقة والعدالة وليس أي شيء آخر.
زرع النظام السوري الكثير من الألغام. وبين ما زرعه السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وهو سلاح لا يخدم سوى المساهمة في زعزعة الاستقرار في لبنان. انه سلاح هدفه الأول والأخير إرسال رسالة الى العالم فحواها أن لبنان بلد غير مستقر وأنه لا يستطيع السيطرة على أراضيه بدليل وجود جزر أمنية فيه.
هل من عذر أفضل من هذا العذر يتمسك به العدو الاسرائيلي في حربه على الشعب الفلسطيني وللادعاء أن هذا الشعب يهوى فوضى السلاح بدليل ما تفعله المنظمات الموالية لسوريا في لبنان؟
لا يستطيع أي مسؤول سوري القول أنه يريد المساعدة في كشف الحقيقة في قضية اغتيال الرئيس الحريري إذا كان يتابع في الوقت نفسه زرع الألغام في لبنان لا لشيء سوى لأن هذه الألغام تتناقض مع البحث عن الحقيقة والسعي إليها. إنها دليل على أن المسؤولين في سوريا لا يسعون سوى الى كسب الوقت تراودهم في الوقت ذاته أحلام من أجل إعادة الأجهزة المتحكمة الى لبنان. عليهم أن يختاروا إما أنهم مع الحقيقة وإما أنهم يعملون على إخفائها. إما أنهم مع لجنة التحقيق الدولية وإما أنهم ضدها. إما أنهم مستعدون للتعاون مع اللجنة وإما أنهم يرفضون ذلك. والأكيد أنه ليس كافياً أن يتحدث المسؤولون السوريون من أكبرهم الى أصغرهم عن مدى دفاع رفيق الحريري عن سوريا والتضحيات التي بذلها من أجل سوريا كي لا يعود وجود للوقائع التي تضمنها تقرير ميليس.
إن قراءة متأنية قد تكون الثانية أو الثالثة وحتى الرابعة للتقرير تظهر أن الرجل قام بمهمته على أكمل وجه وان الخيط الذي قاده الى الاشتباه بالذين اشتبه بهم صار خيوطاً حتى لا نقول حبالاً تمتد في اتجاه محدد. كل ما في الأمر أنه كان يفترض بهؤلاء المسؤولين ألا يستغربوا بعد صدور التقرير في الحادي والعشرين من الشهر الماضي، تبنّي مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالاجماع القرار الخطير الرقم 1636. حتى العضو العربي الوحيد في المجلس (الجزائر) لم يمتنع عن التصويت. كل ما في الأمر أن دولاً عدة مثل روسيا والصين والجزائر وحتى فرنسا، باتت تدرك أن المطلوب في هذه المرحلة الاصرار على الحصول على التعاون السوري الكامل مع لجنة التحقيق الدولية وليس معاقبة الشعب السوري المغلوب على أمره الذي لا حول له ولا قوة. هذا الشعب الذي يعرف في قرارة نفسه مَنْ حاول اغتيال مروان حمادة ومَنْ اغتال رفيق الحريري وباسل فليحان ورفاقهما ومَنْ اغتال الحبيب سمير قصير والمناضل جورج حاوي ومَنْ حاول اغتيال الوزير الياس المر والشهيدة الحيّة الزميلة مي شدياق... وهو يدرك خصوصاً لماذا اضطر شخص مثل وزير الداخلية السوري اللواء غازي كنعان، الذي كان الحاكم المطلق للبنان طوال عقدين، الى "الانتحار".
ليس كافياً أن يقول مسؤول سوري ان اسرائيل اغتالت سمير قصير مثلما اغتالت في الماضي غسان كنفاني وأبو حسن سلامة كي يوجد مَنْ يصدّق هذا المسؤول لأنه لا يستطيع أن يضحك لا على اللبنانيين ولا على السوريين ولا على لجنة التحقيق الدولية.
قبل خمسة أسابيع تقريباً من انتهاء ميليس من تحقيقاته، يبدو أن المسؤولين السوريين لم يتخذوا بعد قراراً واضحاً بالتعاون مع التحقيق الدولي. والأمر الوحيد الواضح أنهم يراهنون على الوقت وعلى الألغام المزروعة في لبنان وربما على الموقف الايراني الذي أعلن دعمه لدمشق مع اصراره في الوقت ذاته على الحقيقة وهو موقف يحاول الجمع بين التناقضات. هل هذا الرهان في محله أم أن هؤلاء المسؤولين يستطيعون أن يفاجئونا وأن يختاروا بين التعاون الصريح مع التحقيق، أو متابعة الرهان على الألغام أي على إمكان تفجير لبنان!