انتحروه أو أنتحر؟ ليست تلك هي المسألة أضافة أن لا فارق يذكر بين أن يكون اللواء غازي كنعان الطامح الى الذهاب الى أعلى المواقع في السلطة، أن لم يكن الى أعلاها في سورية، وضع بنفسه حدّا لحياته أو أنه ُوجد من يضع حدّا لها. في النهاية أن أنتحار غازي كنعان ليس أنتحار مجرد مسؤول يعرف الكثير، أو لنقل أكثر مما يجب، أنه بكل بساطة وصراحة تعبير عن عمق الأزمة التي دخلها النظام في سورية.
شاهد غازي كنعان النظام ينتحر. ولهذا السبب ربّما، قرر مغادرة السفينة باكراً. ربما أيضاً، أنه يرفض رؤية المشهد الأخير في عملية أنتحار بطيئة بدأت مع أتخاذ قرار بتجديد ولاية الرئيس اللبناني أميل لحود ومحاولة أغتيال مروان حمادة. وبلغت هذه العملية ذروتها بأغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري العربي الأصيل والصادق الذي كان يريد كل الخير لسورية ولبنان في آن، وأستمرت مع أغتيال الشهيد والحبيب سمير قصير والمناضل العربي الشريف جورج حاوي ومحاولة اغتيال الضحكة المدوية والصادقة التي اسمها الزميلة ميّ شدياق.
الأرجح ان غازي كنعان انتحر. وأن الرواية الرسمية في هذا الشأن صادقة الى حدّ بعيد خلافا للروايات الأخرى ذات الطابع الرسمي. وكان غازي كنعان يمتلك ما يكفي من الذكاء والخبرة لرفض الدخول في عملية أغتيال رفيق الحريري والأهم من ذلك، انه أدرك باكراً خطورة الأنعكاسات التي ستخلفها الجريمة على النظام في سورية. هكذا بكل بساطة، أختار غازي كنعان الرحيل قبل أيام من صدور تقرير لجنة التحقيق الدولية برئاسة القاضي الألماني ديتليف ميليس.أراد أن يكون غائبا عن المسرح لأنه صار عاجزا عن عمل أي شيء لأنقاذ النظام الذي كان يجد نفسه الأكثر أهلية لقيادته.
ما ُيفهم من الرسالة التي وجهها غازي كنعان، قبيل أنتحاره أو اغتياله، عبر الزميلة" وردة" في أذاعة "صوت لبنان" أنه حريص على تبرئة نفسه من دم رفيق الحريري. ولذلك ليس صدفة ان يكون طلب بث كلامه الذي وردت فيه عبارة "الشهيد رفيق الحريري" عبر تلفزيون "المستقبل" أيضاً، وكأنه أراد القول أنه ليس شريكا في الحملة التي يشنها النظام السوري وأجهزته الأمنية والأعلامية على آل الحريري و"المستقبل".
أمتلك غازي كنعان ما يكفي من الذكاء كي يغادر خشبة المسرح والسفينة الغارقة. والذين يعرفونه عن كثب يدركون أنه كان يكنّ أحتقاراً شديداً للمسؤولين السوريين الذين تولوا بعده الملف اللبناني. كان يعتقد أن لا بد من العودة اليه يوماً، الاّ ان هذه العودة لم تحصل. وأذا كان لا بد من أن تحصل، فأنها جاءت متأخرة جداًّ، أي بعدما تبيّن ان ميليس ذهب بعيدا في تحقيقه وأن السياسة الوحيدة التي بقيت لسورية في لبنان هي سياسة التفجيرات والأغتيالات المتنقلة فضلا عن التهديد بورقة السلاح الفلسطيني التي هي في المدى القصير ورقة ضد لبنان الا أنها لا يمكن الاّ أن ترتد، عاجلاً أم آجلاً، على الطرف الذي يستخدمها... أي عل سورية بالذات.
كان غازي كنعان ظالما وجشعا في آن. أرتكب جرائم كثيرة في لبنان وذهب بعيدا في تغطية عمليات أقل ما يمكن أن توصف به أنها غير قانونية، بما في ذلك عمليات لها علاقة بالمخدرات. ولكن بقي لديه ما يكفي من الذكاء ليدرك أن القرار القاضي بأغتيال رفيق الحريري الذي هو تتمة للقرار القاضي بالتمديد لأميل لحود، كان بمثابة أنتحار سياسي للنظام السوري. فضّل الأنتحار وحده قبل الآخرين ليميّز نفسه عن النظام وعن أهل النظام الجدد، أولئك الذين ستطالهم العدالة الواحد تلو الآخر بغض النظر عمّا سيتضمنه تقرير ميليس وما اذا كان سيوجه أتهامات مباشرة الى الرؤوس الكبيرة في النظام أم سيكتفي بأدانته ككل. في كل الأحوال لن يكون أنتحار غازي كنعان الأنتحار الأول والأخير في سورية. الاّ انه يبقى أنتحارا خاصاً يليق بالرجل الذي اراد ان يقول على طريقته انه راغب في تمييز نفسه عن نظام كامل أتخذ قراراً بالأنتحار!
* المعلومات الشخصية:
غازي كنعان
تاريخ الميلاد: حوالي العام 1943
مكان الميلاد: بالقرب من قرداحة، في سوريا.
العنوان: دمشق، سوريا.
الوظيفة: وزارة الداخلية.
وطبقاً للمعلومات المتوفرة لدى حكومة الولايات المتحدة، فإن غازي كنعان قبل تعيينه في منصب رئيس دائرة الأمن السياسي في سوريا الذي شغله لفترة قصيرة، ومنصبه الحالي وزيراً للداخلية السورية، كان يشغل منصب رئيس الاستخبارات العسكرية السورية في لبنان لمدة تقارب الـ20 عاما. وفي أواخر العام 2002 حل محله في المنصب رستم غزاله.
وخلال فترة قيادته للاستخبارات العسكرية السورية في لبنان، أكد كنعان على أن يظل ضباط الاستخبارات العسكرية السورية مشاركين إلى حد كبير في الشؤون السياسية والاقتصادية اللبنانية.
وتبين المعلومات المتوفرة لدى حكومة الولايات المتحدة أن كنعان بصفته قائد الاستخبارات العسكرية السورية، ساهم في ما تقدمه حكومة الجمهورية العربية السورية من دعم للجماعات المحددة بأنها جماعات إرهابية عالمية مثل جماعة حزب الله. وفي العام 2002 تم نقل ثلاثة صواريخ في قافلة يقال إن كنعان كان مرافقاً لها ونقلها بنفسه إلى حزب الله في لبنان. وفي أيار/مايو من العام 2001، أثناء اجتماع بين كنعان وقادة الأمن في حزب الله، وافق حزب الله على طلب سوريا الامتناع عن تنفيذ أي عمليات عسكرية دون إبلاغ سوريا مسبقا بها. وفي الاجتماع نفسه وافق حزب الله على مواصلة عملياته.
كما تبين المعلومات المتوفرة لدى حكومة الولايات المتحدة أن كنعان كان يتمتع بنفوذ قوي في الجيش اللبناني وأجهزة الأمن. وفي أواخر كانون الأول/ديسمبر من العام 2001، أعلن أحد قادة القوات المسلحة اللبنانية أنه اعتباراً من كانون الثاني/يناير، 2002، فإن تصريحات حمل السلاح وأذون المرور الأمنية التي أصدرتها المؤسسات السورية ستصبح لاغية المفعول باستثناء التصاريح والأذون التي يصدرها كنعان.
وهذه التصاريح والأذون التي كان يصدرها كنعان فقط هي التي سيكون بمقدور الحاصلين عليها حمل السلاح أو المرور عبر نقاط عبور القوات المسلحة اللبنانية ونقاط العبور العسكرية السورية في لبنان دون استجواب أو تفتيش.
ويدعى أنه في آب/أغسطس 2001، إعتقدت حكومة الجمهورية العربية السورية أن رئيس الوزراء اللبناني ورئيس البرلمان اللبناني وأحد قادة الفصائل اللبنانية شكلوا تحالفاً جديداً كان في تقدير سوريا يمثل انتهاكاً للسياسة السورية المستمرة منذ أمد بعيد، المتمثلة في منع أي حزب سياسي أو كتلة سياسية من الهيمنة على السياسة اللبنانية.
علاوة على ذلك، ظنت سوريا أن التحالف الجديد سيضعف اعتماد الأحزاب السياسية اللبنانية على دمشق ويقضي على نفوذ وتأثير حكومة الجمهورية العربية السورية على السياسة اللبنانية. ورداً على هذا الائتلاف، إجتمع كنعان مع رئيس البرلمان اللبناني ليذكره بأن مصالحه تكمن مع السوريين، وأنه يجب أن يقنع زملاءه الآخرين في البرلمان ممن يكون للرئيس نفوذ عليهم بهذه الحقيقة.
وبالإضافة إلى ذلك، ذكرت الروايات الصحفية أنه لوحظ خلال الانتخابات البرلمانية اللبنانية في العام 2000 ، كما لو أن كنعان كان هو المشرف على العملية الانتخابية برمتها.